البؤساء”2″

إنه جحيم لا يُسطّر في كتب التاريخ، وإنما سطرته أيدي هوغو في رائعته "البؤساء"، التي لولاها لكانت الثورة الفرنسية في نظرنا هي الجانب الأسطوري والملحمي فقط، ولكنَّ للثورة أنياباً أيضاً تنهش في عضد وجسد المجتمع الذي قام بها، تتمثل تلك الأنياب في ظروف اقتصادية صعبة، واتساع لرقعة الفقر في المجتمع، التي تسهم بدورها في تغيير كبير في المجتمع جراء ظروف حياتهم الصعبة.

عربي بوست
تم النشر: 2016/08/25 الساعة 00:14 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/08/25 الساعة 00:14 بتوقيت غرينتش

كان لا بد لنا أن نوضح الأحداث والظروف التي سبقت رواية البؤساء، حتى تتضح لنا الصورة كاملة؛ لنراها كما رآها فيكتور هوغو، فالرواية تبدأ في عام 1815 أي بعد نفي نابليون، عن سجين سُجِن 19 عاماً وخرج لتوه من السجن، أي دخل السجن بعد سنتين فقط من إعلان الجمهورية الفرنسية الأولى وإسقاط الملكية في فرنسا، التي كانت في نظر الفرنسيين السبب الأول في الفساد والفقر الذي وصل إليه المجتمع في فرنسا، وتلك لها دلالة على أن ليس ضرورياً أنَّ بتغيير رأس النظام يتغير النظام كله.

السؤال الأهم هنا هو: لمَ دخل بطل الرواية السجن؟
لأنه سرق؟ ولم سرق؟ سرق لكي يطعم أخته وابنتها اللتين تضوتا جوعاً نتيجة الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد، ويُطبق عليه القانون بصرامة دونما أي اعتبار للأسباب التي قادته للسرقة.

ففي نظر هوغو أن القانون لا بد أن يطبق على من كانوا سبباً في جوع أخته وابنتها قبل أن يطبق عليه هو. الأمر لا يتوقف على السجن فقط في رأي هوغو

وإنما على نظرة المجتمع للسجين طوال حياته، وكيف نبذه المجتمع لكونه مجرماً سابقاً حتى وإن قضى عقوبته.

وينتقل البطل من سيئ إلى أسوأ بسبب الظروف الاجتماعية الصعبة المحاط بها التي لم تتغير؛ لأن الجاني الحقيقي لم يدفع الثمن بعد.

وينتقل هوغو إلى نوع آخر من البؤس، وهو عن سيدة تنصل منها حبيبها ولم يفِ بوعوده لها، ليتركها في ظروف صعبة جداً، جعلتها تعمل في أحد المصانع وتحيا على الكفاف فقط كي تسد احتياجات ابنتها، الأمر الذي تم اكتشافه فيما بعد أنها أنجبت بدون زواج، مما أدى بها إلى خسارة وظيفتها ولكن تظل المسؤولية مسؤولية، ولثقل الحمل على كاهلها يضطرها إلى العمل في أعمال وضيعة جداً أودت بها في النهاية إلى المرض والموت.

في نظر هوغو أنه ليست القوانين فقط هي القاسية، بل المجتمع قد يكون أكثر قسوة من تلك القوانين والأنظمة، التي يدعي فسادها ولا يحق لمجتمع أي وطن أن يجمع بين الاثنين، فإن كان النظام فاسداً كن أنت العادل، وإن كان المجتمع ظالماً فلتكن القوانين عادلة، ولكن إن فسد الطرفان فإنه نوع من الجحيم الذي لن يتحمله بشر وفوق طاقة أي انسان عادي.

ولكن يبقى الأمل في الإنسان الذي بداخل كل منا، فمهما كانت الظروف ومهما كانت المعوقات إلا أن الإنسانية نهر لا ينضب، وهو ما صوره هوغو في تكاتف بطل روايته غان فالغان مع السيدة فانتين اللذين جمع بينهما الظلم لا أكثر،
ولولاهما ما أحس غان فالغان بالذنب تجاه السيدة التي طردت من مصنعه، فالفكرة هنا ليست في مروءة رجل، بل في أن المظلوم للمظوم سند، وأنه كلما زاد الظلم وزادت ضحاياه، قربت نهايته.

وينتهي هوغو بقوله: ما دام ثمة هلاك اجتماعي، بسبب من القانون أو العرف، يخلق ألواناً من الجحيم على الأرض.

إنه جحيم لا يُسطّر في كتب التاريخ، وإنما سطرته أيدي هوغو في رائعته "البؤساء"، التي لولاها لكانت الثورة الفرنسية في نظرنا هي الجانب الأسطوري والملحمي فقط، ولكنَّ للثورة أنياباً أيضاً تنهش في عضد وجسد المجتمع الذي قام بها، تتمثل تلك الأنياب في ظروف اقتصادية صعبة، واتساع لرقعة الفقر في المجتمع، التي تسهم بدورها في تغيير كبير في المجتمع جراء ظروف حياتهم الصعبة.

فمثل ما تصنع الظروف الصعبة أناساً أفضل قادرين على تحمل الصعاب والمسؤولية، أيضاً تصنع تلك الظروف أناساً أسوأ قادرين على تحويل حياة من حولهم إلى الأسوأ.

فبعد خمس سنوات من الربيع العربي تتمثل لنا "البؤساء" الآن في واقعنا العربي واقعاً ملموساً، ولم تصبح رواية مرت عليها قرون، وكي لا ينحدر المجتمع لما هو أسوأ مما هو عليه الآن، علينا أن نلتفت ولو لمرة لما تفعله المهاترات السياسية بالمجتمع، وعلى كل صاحب فكر وصاحب كلمة أن يرى أثر فكرته وكلمته على المجتمع، قبل أن تكون على منصب أو مكانة سياسية بعينها، ولكل فرد بالمجتمع له أن يراجع نفسه في تصرفاته، ويقيس أثرها على نفسه وعلى مَن حوله؛ لأن في النهاية مهما كان المسؤول عن الجحيم الذي يحياه الناس سنواجه نفس المصير معاً.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد