مواقع الافتراض والانفصال الاجتماعي

فالتواصل الاجتماعي لم يعد أكثر من تعليق أو "لايك" على منشور على صفحات من نعرف حقيقة، ونرمي بين الحين سلاماً عابراً لا نقصد منه تواصلاً واجتماعاً بقدر فكرة أننا ما زلنا نعرف أنك هنا في هذا الوجود.

عربي بوست
تم النشر: 2016/08/25 الساعة 02:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/08/25 الساعة 02:04 بتوقيت غرينتش

أصبحنا نعيش في جزر منعزلة برغم اتصالها، ما نسميه مواقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، وتويتر، وإنستغرام وسناب شات وغيرها، رغم مسماها الدال على معنى الاجتماع والتواصل، فإنه مفرغ منها، صحيح نشاهد ونقرأ ونسمع لعدد كبير من الناس من كل العالم، لكن صلة الوصل الحقيقية لم تعد وثقى، بل فكت غزلها بدون قوة.

وأصبح بدل القول الشائع "الإنسان اجتماعي بطبعه" زمن دور كايم وأصحابه، أصبح في يومنا "افتراضي بطبعه"، أي لا يعايش الواقع إلا في فترات بسيطة جداً قد نجملها في وقت العمل مع التصفح الدائم للهاتف والحاسوب خوفاً من فوات أمر جلل، نكتة أو رسمة أو بث مباشر لأحدهم أو تسوق لأحد المشاهير وغيرها، ووقت الأكل وإن كان هو الآخر بمرافقة المواقع وتصوير ما طاب ولذ، إن كان من الطبقات المخملية فلا يستسيغ الواحد منا طعماً ولا لوناً ولا حتى رائحة لانشغاله، وزيادة على كل ذلك زيادة نسب الكسل بدرجات عالية، وزيادة نسب السمنة، والدليل ما حصله العالم العربي مجتمعاً من ميداليات في الأولمبياد، حتى بتنا نجنس شعوباً أخرى؛ لترتفع أعلامنا برغم أن نسب الشباب في أوطاننا يحسدنا عليها القاصي والداني ولكن للأسف كغثاء السيل، أعرف سيقال إنها مبالغة، ونحن بدورنا لم نقل هي السبب الرئيسي، لكنها زادت من تفشي هذه السلبيات، أي زادت الطين بلة.

لم يعُد في حياتنا ما هو واقع مادي ملموس إلا بقدر ضئيل جداً، والتواصل الاجتماعي الحقيقي من صلة الرحم والقرابة والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب قربت من الانعدام، نسكن في بناية واحدة لا يعرف بعضنا بعضاً، ولا حتى بالأسماء، لا نتحدث عن المعرفة الإنسانية، وحتى رد السلام بات عملة نادرة.

فالتواصل الاجتماعي لم يعد أكثر من تعليق أو "لايك" على منشور على صفحات من نعرف حقيقة، ونرمي بين الحين سلاماً عابراً لا نقصد منه تواصلاً واجتماعاً بقدر فكرة أننا ما زلنا نعرف أنك هنا في هذا الوجود.

حتى الأسرة الصغيرة المكونة من أب وأم وذريتهما تعاني هذا الانفصال، خاصة بعد تقنية الواي فاي، وقدرة كل شخص على الاتصال بشبكة الإنترنت منفصلاً، رحم الله زمناً غير بعيد، كان هناك على الأقل تواصل، وإن شابه شجار وغضب عندما كان جهاز الإنترنت مثبتاً بحاسوب واحد، فلا بد من التناوب، وهو ما يخلق التواصل، لكن حتى هذه المماحكة ولَّت وأفلت.

وهذا يجعلنا نطرح سؤالاً مهماً: كيف بالأجيال القادمة وإن باتت بوادره تظهر فابنتي بعمر السنتين تميز بين اليوتيوب والفيسبوك، وتفضل الأول لأنه ينقل لها عالماً متحركاً ملوناً فكيف ستكون علاقة الإنسان بأخيه؟ ولماذا نتساءل عن أخيه كيف ستكون علاقته بأمه وأبيه وصاحبته وبنيه؟ ولكن أظن أن الأمر بيّن، فلكل امرئ منهم شأن يغنيه، حتى وإن اجتمعت الأبدان في مكان واحد، لا تجتمع العقول والنفوس إلا نادراً، وحتى أمهات العقود السابقة عندما انصرف الجميع عنهن انصرفن هن كذلك للتعلم وإنشاء صفحات خاصة بهن، فعلى الأقل يجدن واقعاً افتراضياً يبعدهن عن الوحدة، والحكايات والقصص التي يتبادلها أفراد الأسرة إن حدثت تدور في إطار ما شاع على هذه المواقع أو إبراز فيديو أو أغنية أو ما شابه ذلك، ثم يعاود انقطاع الحديث مجدداً، وكأن على رؤوسهم الطير، بتنا نتحسر حقيقة على أيام التلفاز، أظن مع العقود القادمة سيندثر هو أيضاً.

للأسف حتى علاقة الإنسان بربه وخالقه نقلت إلى المساحات الافتراضية، وتزيد كما كانت في الواقع الحقيقي في رمضان، نلحظ ذلك بكثرة الأدعية والذكر والتسبيح ووضع آيات من الذكر الحكيم، وحتى تأثرهم وخشوعهم يضعون له علامات سميائية دالة، كالبكاء أو الراحة أو غيرها من المشاعر التي تكتنفهم.

لم يبقَ مجال للخصوصية الفردية تقريباً أفراحنا وأحزاننا وآلامنا بل كل أحداث حياتنا وتفاصيلها بوابتها الأولى مواقع التواصل، نعزي فيها ونبارك الأعراس والولادات وندعو للمرضى.

يبقى أن نقول: صحيح لهذه المواقع نفعها، ولا شك، لكن إن قضت على أهم أسباب الوجود الإنساني، وهي التعارف والتواصل الحقيقي، فهذا لا يبشر بخير، فكل ما يسمى فيها بالصداقات تبقى وهماً وافتراضاً ومعرفة زائفة تندر فيها العلاقات الحقيقية التي تستمر خارج الشاشات، وكأننا بتنا نعيش في العالم الموازي، وتركنا العالم الواقعي، أو بالأحرى هجرناه.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد