وأنا تلميذ في الصف الإعدادي، بهرتني مجموعة من الأعمال الروائية لصاحبها المبدع نجيب الكيلاني، أحسست يومها أنني كلما قرأت له إلا وازدادت رغبتي أن أكون يوماً ذاك الكاتب أو الروائي الذي يبحر في عمق الكلمات؛ ليصعد للأعلى بجمل وكتابات تبهر قارئها، وتذهب به بعيداً في سجال فكري منقطع النظير. فها هي رواية "قاتل حمزة" تغوص بك في أحداث السيرة النبوية الشريفة بأسلوب سلس جميل، وها هي "رأس السلطان" تخبرك بأحداث الاستعمار الإنجليزي في مصر بنكهة درامية جميلة، كما تطرح رواية "عمر يظهر في القدس" إشكالات تخلف المسلمين، وفقدانهم لشهامتهم بطريقة فنية غاية في الروعة، وهكذا الأمر مع بقية أعماله الإبداعية.
مرت فترة بعدها لأعلم أن نجيب الكيلاني، ذاك الروائي والكاتب المشهور هو نفسه ذاك الطبيب البارع المتقن لعمله، ولما كنت أحلم آنذاك بولوج كلية الطب، بعد إنهاء فترة ثانويتي، فقد صدمت للأمر أيما صدمة؛ لأني كنت أظن حينها أن الجمع بين تخصصين اثنين غير ممكن البتة، إلا إن تعلق الأمر بسقراط، ذاك اللاعب الذي علا نجمه وبرز في كرة القدم… اعتقدت يومها أن ذلك تحقق معه؛ لأن أحد الأمرين أو التخصصين موهبة من الله.
صعدت للمرحلة الثانوية، وصعد معي تشوق وانفتاح أكبر على مجال الفن والثقافة من جهة، ومجال الفكر والسياسة من جهة ثانية، فاكتشفت وجوهاً وأعلاماً وشخصيات ومفكرين جدداً في مختلف المجالات، بحثت في تخصصاتهم المعرفية والعلمية، فوجدت الكثير منهم جامعاً لتخصصين علميين مختلفين تماماً أو أكثر، فتأكدت يومها أني كنت صاحب أفكار مغلوطة بنيت تحت تأثير ذهنية مجتمعية تمتح من التخلف، والشاهد وجود استثناءات من الموسوعيين أمثال مصطفى محمود الكاتب/ الطبيب، وطارق السويدان المفكر/ المهندس، وعدنان إبراهيم العالم/ الطبيب.
عندما وصلت بي سفينة الدراسة إلى البكالوريا، كنت قد خلصت حينها إلى فكرة مفادها أن الجد والعمل يطوعان المستحيل، ويجعلان من صاحبهما إنساناً موسوعياً ملماً بالكثير من العلوم، أو متقناً للكثير من اللغات، أو حتى دارساً للكثير من التخصصات.
اصطحبت فكرتي هذه وبدأت أدرس سنة البكالوريا لأتوج في نهايتها بميزة "حسن جداً"، الميزة التي فتحت الباب أمامي لخوص امتحان ولوج كلية طب الأسنان بالرباط، لأكون بعدها طالباً من طلبة هذه الكلية بعدما كان حلماً يراودني وأنا تلميذ صغير.
دخلت كلية طب الأسنان وأنا عازم على تحقيق التوازن!… توازن ما بين التخصص وغير التخصص، توازن بين دراسة الطب وإتقانه، والتدارس في غيره، توازن ما بين التحصيل العلمي والتحصيل المعرفي ككل، فما كان لي إلا أن أعزم ثم أتوكل!
بدأت الدراسة في هذه الكلية وأنا كلي عزيمة وروح، غير أني لم أكن أعلم بأني سأجد واقعاً جديداً لم يكن ليخطر على بالي يوماً. وجدت كليتي تعتمد نظاماً أكاديمياً أقل ما يمكن أن يقال عنه إنه أشبه بنظام عسكري، وجدت اليوم كله دروساً نظرية وتطبيقية، ووجدت الكلية وسطاً يقتل الإبداع في الإنسان، وجدت الجل يحذرك من التوازن في الحياة… أو وجدت بالأحرى الجل منغمساً في "طبه"!
حاولت البدء في دراسة تخصص آخر بمفردي أو حتى حفظ القرآن الكريم أو تعلم لغة جديدة، فعلمت أن الكثير من أمثالي معتكفون ساعتها على العشرات من صفحات المقررات يلتهمونها التهاماً، أدركت حينها أن الأمر لم يعد يطاق، فحاولت أن أبحث قبل أن أطبق، أبحث عن السبب الذي جعل من هؤلاء ينزوون كالصوفيين في زواياهم… بدأت بمساءلة بعض الأصدقاء في مختلف مدارس الهندسة، فاكتشفت أن الأمر يتشابه لحد كبير، وأن القليل هم من استطاعوا إخراج ذواتهم من "عبادة" التحصيل العلمي؛ علمت حينها أن نجيب الكيلاني وعدنان إبراهيم ومصطفى محمود وغيرهم، ليسوا سوى استثناءات عملوا بجد وكد ولم يعيروا للمجتمع أي اهتمام، علمت أنهم بالفعل أعلام يستحقون ما وصلوا إليه، هم بالفعل أناس خرجوا عن المألوف فأخرجوا لنا ما هو غير مألوف من أفكار وإبداعات.
أكملت البحث عن السبب فوجدت تأصيلاً منطقياً مبنياً على حجج كثيرة -لا تكفي مقالة واحدة لجردها- مفاده أن الاستبداد والأنظمة الفاسدة المستبدة تسعى إلى ذلك، تسعى إلى تخريج أطباء لا يفهمون إلا في الطب، ومهندسين لا يفقهون إلا في الهندسة، وتقنيين لا يعرفون إلا ما هو تقني، استبداد يؤسس لنظام تعليمي أكاديمي لا يكاد الدارس فيه يخرج عن مجاله، فكيف ذلك؟ لعل الجواب تجدونه في مقال قادم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.