سنة 2006 كتبَ طبيب الجينوم الشهير "فرنسيس كولينز" "francis collins" كتاباً سمَّاه "لغة الله" (the language of god)، وطرح فكرة أن D.N.A هي لغة الله التي يتحدث بها، وهي بصمته في خلقه.
ونحن الآن لسنا بصدد مناقشة هذا الطرح، بقدر ما يهمنا منطق "كولينز" وتصوره للغة؛ إذ نقلها من معناها الضيق إلى معنى عام فضفاض، مخالفاً ما جاء عند اللسانيين وعلماء اللغويات المدققين؛ إذ يجعلون اللغة هي "تلك الملكة الفطرية التي تُخلق مع الإنسان"، ويفرقون بين اللغة والكلام واللسان، كما عند "دو سوسير" مثلاً.
وبهذا التصور الواسع، يمكن الحديث عن خط عريض للغة، يتمطط ويتقلص، فيقبل دخول لغة الله ولغة الكون ولغة الحب.
ولغة الحب هذه من أعجب ما يكون وترى وتسمع، حتى قال بعضهم: "الحب لا يُعرَّف"؛ لغموض ما يكون منه، ولا مشاحة إن قلنا إنّ هذه اللغة هي لغة كل الجهات والاتجاهات، فتكون بذلك كـ"الفرجار"، تثبُت في المركز إحدى رجليه، وتطوف الأخرى في أي اتجاه.. وهذه اللغة لا تحتاج كلاماً بَيِّناً للتعبير عنه باللسان، بل قد يكون صامتاً، قد يتقنه الصم والبكم، ويسقط فيه الفصيح البليغ، قد يتحقق بالإشارة والإيماءة؛ لأنها لغة القلوب بامتياز:
العينُ تُبدي الذي في نفس صاحبها ** من المحـبة أو بُـغـضٍ إذا كانا
والعين تنطـق والأفـواه صـامتـة *** حتى ترى من ضمير القلب تبيانا
والإنسان خُلق لهذه الغاية، بل لن يُحقق إنسانيته إلا بلغة الحب وتمثله.
ومشاكل الدنيا اليوم بأجملها تُعقد حولها المؤتمرات وتُسن البنود وتُتخذ الإجراءات لمكافحة التطرف والإرهاب والعنف.. لكن ليومنا هذا بلا جدوى، ولو التفتنا لركن أجوف خربٍ منقضٍ فعمدنا لإقامته لأقيم صرح الإنسانية على هذه البسيطة جمعاء.
والحب كما يقول أحمد حسون: "كلمة من حرفين، الحاء في نطقها سعة، والباء في لفظها جمع، فبعد أن تعلق الفؤاد بالمحبوب وأحاط به على قدر معرفته ضمَّه إليه"، وبهذا الضم يتماسك المجتمع والقوم والإنسان.
والله إنما خلقنا في هذه الدنيا لتمثل هذا الحب، بل إن الله سبحانه وتعالى يتصف بالحب، يقول محيي الدين بن عربي، في معرفة مقام المحبة: "اعلم -وفقك الله- أن الحب مقام إلهي.. فإنه وصف به نفسه، وتَسَمَّى بالودود".
وقلنا إن الحب لغة كل اتجاه.. ممكن التحدث به عمودياً، بعلاقة تربط العبد بربه، والله بعبده، وهذا سبيل طالما جنح إليه المتصوفة، والعارفون بالله.. والله يتصف بالحب كما قلنا؛ وهذا جلي في الحديث القدسي: "ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه.."، فأي مقام هذا الذي يحبك فيه الله عز وجل.. وهو لا يرجو منك إلا عبادته، والعبادة لا تتحقق إلا إذا أحببت المعبود، فإذا أحببته لزمته، يقول ابن فارس: "الحب والمحبة تفيد اللزوم، اشتقاقه من أحبه إذا لزمه"، والله سبحانه مُقِرٌّ بأن المؤمن مُحِب في علاقته العمودية مع ربه، فقال سبحانه: (وَالذِينَ آمَنُوا أَشُدُّ حُباً للهِ)، وفي هذا يقول القشيري في رسالته: "المحبة حالة شريفة، شهد الحق سبحانه بها للعبد، وأخبر عن محبته للعبد، فالحق سبحانه يوصف بأنه يحب العبد، والعبد يوصف بأنه يحب الحق سبحانه".
فإذا كان الحب هاهنا عمودي الاتجاه، فلا لشيء إلا لترسيخ هذه اللغة للتحدث بها أفقياً وتمثلها بين الخلائق، والكائنات، بل الموجودات جُلها، لطبيعة في الإنسان كلِّه، قال سبحانه: (زُيِنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ الِنّسَاءِ والبنينَ وَالقَنَاطِرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَهَبِ والفِضَّةِ والخَيلِ المُسَوَّمَةِ والأَنعَامِ والحَرْثِ)، فالإنسان يميل لهذه الملذات بماهيته، وكما يقول الجنيد: "المحبة ميل القلوب".
والحب تجلٍّ للجمال في طبيعة النفوس، وصعب لمن لا يتذوق الجمال أن يُحب، وبهذا نعرِف لماذا الله يُحب؟، ببساطة: "لأن الله جميل يُحب الجمال"، ومن لا يتذوق الجمال سهل جداً أن يقتل ويسرق ويكون سيفاً على الناس، وشكسبير في إحدى مسرحياته جعل شخصاً يتحدث لآخر فقال له: احذر من فلان.. إنه خطير، فلما استفسره: لماذا؟ أجابه: لأنه لا يتذوق الجمال.. وأكثر الشعوب تذوقاً للجمال أكثرهم محبة ورحمة في ما بينهم، وهذا ما أرادنا الشارع أن نكونه: "مثل الجسد الواحد"، وهذا الحب الأفقي هو ما عبَّر عنه ابن حزم في "طوق الحمامة"؛ إذ قال: "والذي أذهب إليه أنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع"، وهذا ما يجب أن يتجلى في البشرية جمعاء، وتعيش عليه البطحاء، واستمع لحديث من أروع ما يكون، ولو ذكرناه وحده في هذا المقام لكفى؛ إذ فَسَّرَ نبيُّ الرحمة عن عظمة الحب، إذ جُعِل مناط الإيمان، بل ومناط دخول الجنة، وهو ما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا".. فأين محاربو التطرف والإرهاب والتعصب من هذا الحديث؟!
وللحب لغة فرديةٌ ثنائية، فحب النفس طبع أصيل في الإنسان، لكن رسول الله زكّاه ونماه وجمَّلَه في أبهى حلة فقال: "لا يؤمن أحدكم حتى يُحب لأخيه ما يحب لنفسه".
وحب الجنس الآخر حب راقٍ، قدسه الله، فالزوج يحب زوجه في وداد ورحمة، وإذا لم يكن ثمة حب استحالت دنياهما خراباً وجحيماً، وعلاقة الذكر بالأنثى علامة دالة على الله سبحانه؛ إذ قال: (وَمِن آياتِه أَن خَلَقَ لَكُم مِن أنفُسكُم أزْوَاجاً لتَسكُنُوا إلَيها وَجَعَلَ بَينَكم مَودةً وَرَحمَةً)، والود في اللغة هو خالص المحبة، فهو درجة أعلى من الحب، فهو منه بمنزلة الرأفة من الرحمة.
وقد قلنا آنفاً إن الله بجلاله يحب الجمال، والحب نقيض البغض، إذن؛ إذا كان سبحانه يحب الجمال، فهو طبعاً يبغض الخبث والقبح؛ لذلك نجد في أكثر من موضع من كتابه سبحانه أنه لا يحب الفساد، والمعتدين، والمفسدين والكافرين.. وهلم جراً مما لا تطيقه النفس والفطرة البشرية النسبية، فكيف بالله المطلق عز وجل؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.