في حوار طلبته مني لمعرفة المزيد حول قضايا عربية إسلامية دام حوالي ساعة بعد انقضاء حصص الدروس الرسمية التي أخذتها قبل بضع سنوات حيث أشتغل بروما، وكنت قد شاركت في تدريس المواد التي درست، سألتني طالبة جامعية من أصول إيطالية – أميركية، إن كنت مسلماً أو إن كنت لا أزال مسلماً رغم كل الدماء والدمار الذي يرتكب باسم الإسلام، فقلت لها إن سؤالها هذا يجيب عن كثير من أسئلتها السابقة.
كان باستطاعتي أن لا أفصح عن ديني للطالبة خارج ساعة الدرس التي لا تلزمني بالحياد والتكتم عن ديني – تديني أو عدمه، فذلك حق من حقوقي الخاصة، وكان باستطاعتي أن أقول بسرعة إن الإسلام السياسي المتشدد ليس بالإسلام على الإطلاق، لكن أجبتها بما يمكن أن أجيب أي طالب أو سائل، سواء كان مسلماً أم غير ذلك، ليس دور الأكاديمي حتى خارج أسوار الجامعة والحيز الثقافي أن يبسط كل شيء إما دفاعاً عن مذهب أو فلسفة أو دين أو هروباً منها جميعاً، ليس من واجبي ولا من اهتمامي أن يقتنع الفرد بما أقول، بل المهم أن نتحاور حول ما هو غامض للفهم وليس للإفحام، إن من يثق بمذهبه وفلسفته ودينه لا يدافع عنها بحماسة الأعمى ولا ثقة البيداغوجي، بل يتحدث بعقل منفتح يترك للآخر المجال للرد والتفكير.
المهم في الحوار أن تتحدث بعقل يستوعب فكر الآخر ليعرف أنك تتفهم موقفه، وإن لم تتفق مع مضمونه؛ لذلك أجبتها أنني مسلم، ولكن ذلك لا يهم؛ لأن الأهم هو فهم ظاهرة إنسانية: كيف لمجموعة دينية كبيرة أن تحافظ على دينها وثقافتها وفلسفتها في زمن النكسات والحروب والعنصرية والخوف؟
كيف يمكن لمسلم اليوم أن يحافظ على هويته التي يهاجمها مسلمون آخرون متشددون ومتشددون آخرون غير مسلمين؟
كيف يمكن التمسك بالهوية بدون انغلاق وبدون إحساس بالضعف الهوياتي والعقلانية في التحليل والمناقشة مع الغير؟
ليس المسلمون وحدهم مَن مر بهذا المأزق الهوياتي في التاريخ؛ لذلك فهم لا يمثلون استثناءً ولو بدا الأمر كذلك؛ لأن قرنين من الاستعمار المستمر والانحطاط الحضاري الذي يمتد لقرون قد يجعلان الأمر يبدو فعلا استثناءً. يقول أحد كبار المؤرخين الأميركيين لحضارة الإسلام، وهو مايكل هودسون مستشهداً بدوره بأحد المؤرخين، إنه يجب أن نتحدث بتواضع إن كنا غير متمكنين من تاريخ ثلاثة آلاف سنة الأخيرة من تاريخ البشرية على الأقل، بمعنى أنه يجب أن نتوخى الحذر في إبداء الأحكام التاريخية وكأنها التاريخ كله.
كلما اعتبر المسلمون أنفسهم استثناءً إلا وتعصبوا وانغلقوا على أنفسهم ورفضوا أي تجديد، الإنسان المسلم إنسان قبل كل شيء، ويجب أن يفهم أن الإسلام لا يعني خلاصه الأبدي، ولا يعني أنه دائماً على صواب، لسبب بسيط هو أن الإسلام يدعو إلى العمل والاجتهاد، ومن لا يزرع البذر الطيب لا يحصد إلا ما زرع، الإسلام فلسفة في الوجود ومن لم يعمل عقله لن يفهم لا معنى الوجود ولا معنى الإسلام، يكفي أن نرى كيف يهرب المسلمون من ديار الإسلام للعيش بسلام وأمان وحرية بديار الدول الحديثة؛ لما وفرت لهم من حقوق وحريات، وأترك نقد الحداثة في جانبها السالب للإنسان إلى ملاحظات قليلة قبل نهاية المقالة.
قلت للطالبة إن الإسلام دين شامل ومنفتح لا يمكن أن تحصره جماعة أو دولة أو شخص، وعقول الدول والجماعات والأشخاص كلها تأويلات لمعنى الإسلام، الإسلام بعدد المسلمين، وكما كان يقول المفكر الجزائري – الفرنسي محمد أركون (ت 2010) الإسلام كاثوليكي من الناحية السياسية، وبروتستانتي من الناحية الأخلاقية – الروحية، أي أنه تاريخياً كان له حضور قوي وتأثير في سياسات الإمبراطوريات والملكيات والأمارات والدول الإسلامية، كما كان له بالغ الأثر في الإنسان من الناحية الأخلاقية – الروحية، سواء كان هذا الإنسان يعيش داخل أغلبية إسلامية أو أقلية لا تطبق كثيراً من التشريعات القانونية الإسلامية التي تهدف في أساسها إلى تربية الفرد على الاستقامة الأخلاقية من أجل المصلحة العامة والعدل الاجتماعي، وليس إلى الترهيب، كما تؤول الآن من قِبل الإسلام السياسي المتشدد.
مما قلت للطالبة أيضا إن الإسلام جاء بداية في سياق تاريخي معين، فكان بذلك ثورة روحية – أخلاقية واجتماعية وسياسية قوية ألهمت معتنقيه وبنت حضارة إنسانية كبيرة، ركنها الأول والأهم هو التوحيد، أي الشهادة التي تحرر الفرد من كل قيد اجتماعي وسياسي وتترك للفرد سلطة الحركة في الآفاق، بأخلاق فاضلة عليا.
أما الأركان الأربعة الأخرى من صلاة وصوم وزكاة وحج فكلها تغذي هذه الروح وتعلمها ما تعلمها حسب قوة الفرد الداخلية، روحية وبدنية، فردية وجماعية، أفقية وعمودية.. إلخ، طبيعة الدين المنظم أن يكون شاملاً لكل مناحي الحياة، ليجيب عن أسئلة الفرد والجماعة، بشكل مباشر أو غير مباشر، والإسلام دين منظم من هذا النوع؛ لذلك أصبح عالمياً، لا تحده جغرافيا ولا عرق ولا لسان، ولا زمان ولا مكان.
إن هذا ما يجعل منه ديناً إنسانياً، يجد فيه الإنسان كثيراً، وليس قليلاً، من الأجوبة الوجودية والحياتية حول دوره في الحياة، ودوره في المجتمع، واعني بـ"كثيراً من الأجوبة"، عوض "كل الأجوبة" تلك الأبواب الفكرية والعقلية التي يفرض هذا الدين على المتدين أعمالها، فالقرآن الكريم مثلاً مليء بالقصص التاريخية والمواعظ والدعوة إلى التأمل في الكون والوجود والإنسان، ومليء بمفاهيم المسؤولية والعدل، ولا نجد إلا حوالي 15% من آيات الأحكام الواضحة في تشريعها القانوني التي يجب أن تفهم في سياقها التاريخي، ولا أعرف كتاباً "مقدساً" أكثر دعوة للإنسان لإعمال العقل من القرآن الكريم، لقد كرم الإنسان بالعقل، فكان بذلك كتاباً كريماً بهذا الخصوص فعلاً، وليس كتاباً دموياً كما يقرأه الدواعش، ولا كتاباً درسه الوحيد رفض كل ما هو جديد كما يريده السلفية الرجعية، نحتاج لسلفية تقدمية، ترجع للماضي لتسير للمستقبل، لا لتقبع فيه.
زدت على ذلك أن أخلاق الرسول الكريم قبل بعثته وبعدها تعتبر مثالاً إنسانياً عظيماً يحتذى به، أو على الأقل يحترم لمن لا يؤمن؛ لأن الشخصيات التاريخية التي تؤثر في الإنسان إيجاباً تستحق التقدير والاحترام.
والمسلمون إنما يحترمون رسولهم لخلقه الإنساني وسعيه نحو الأفضل رغم مسيرته الاجتهادية الصعبة والطويلة، وقدرته على تحويل تاريخ العرب والعجم بناءً على مفاهيم وجودية واجتماعية غاية في العقلانية والتركيب والتحديث إذا ما قُرئت في سياق التاريخ الإنساني العام.
لم يؤمن المتكلمون والفلاسفة المسلمون القدامى فقط لأنهم ولدوا مسلمين، بل حافظوا على إيمانهم وزادوه تركيباً حتى بعد أن انفتحوا على العلوم العقلية الوافدة إليهم أو التي وفدوا إليها أنفسهم، ونفس الشيء يقال عن مسلمي العصر الحديث الذي يبهر الإنسان عامة بالآلة ودقة العلوم، ومع ذلك غالباً ما يزداد المؤمن إيماناً حتى ولو اجتهد وقرأ التشريعات الدينية في سياقها التاريخي الخاص، وركز على الباقي من الدروس والعبر الدينية الأخلاقية الإنسانية.
إن هذا العقل التركيبي المجتهد، هذا العقل الحضاري، هو الذي سيحفظ دور الإيمان في مجتمع المستقبل، مجتمع الوحدانية والفردانية والاستهلاك الذي لا يولد السعادة، إنه نفسه العقل التركيبي الذي بنى حضارة إنسانية في زمن من الأزمان، قبل أن يذبل ويصبح عقلاً دفاعياً وسياسياً فقط.
كما زدت وقلت إن التاريخ مليء بالحروب التي يستعمل فيها الدين، وإذا ما استحضرنا درس التاريخ هذا فإننا سنجد أن الناس الذين استُعمل دينهم لشن الحروب والدمار لم يغيروا دينهم بل تمسكوا به أكثر، وإن ساعدتهم الظروف أعادوا تشكيل هذا الدين؛ ليصبح أكثر مناسبة لحالهم ومعاشهم. وفي التاريخ الإسلامي أمثلة كثيرة: لم ينجح الخوارج في أن يصبح مذهبهم المتشدد مذهب عامة الناس، ولم ينجح السنة في تغيير مذهب الشيعة ولو أنهم الأغلبية، للمجموعات الإنسانية منطق تنتصر إليه حتى عندما تكون أقلية، وأمثلة اليهود في العالم مثال جيد كذلك؛ فرغم الاضطهاد المسيحي لهم عبر التاريخ فإنهم وجدوا سبلاً للعيش والتعايش داخل الأغلبية غير اليهودية، وخاصة داخل الأغلبية الإسلامية التي تعترف بدينهم.
وبنفس المنطق نقول: هل نلوم المسيحيين كلهم؛ لأن أوروبا الغربية مثلاً غزت العالم واستعمرته في وقت من الأوقات؟ وهل نلوم المسيحية؛ لأن شخصاً مهووساً بالحكم والهيمنة كهتلر استعمل الخطاب الديني في حرقه لليهود ومن خالفه من المسيحيين أنفسهم؟ لا بد من الحذر في فهم التاريخ، ولا بد من رفض مسألة الاستثناء الإسلامي؛ لأن ذلك يورث العقل الدفاعي والسياسي، ويجهض اجتهادات العقل الحضاري.
لا يمكن نفي الإسلام عن الإرهابيين والمتشددين، وهم قلة قليلة العدد كثيرة الصوت؛ لأن البنادق معهم، ولكن ما يمكن نفيه عنهم هو فهمهم لهذا الدين العظيم الذي يحرر الفرد من أي سلطة تحاول أن تسرق استقلاليته الوجودية وعقلانيته الواجبة الإعمال، رغم أن معظم المجتمعات الإسلامية محافظة فإنها ترفض أن تتشدد في الدين تشدد الدواعش مثلاً؛ لأنه تشدد لا يبقي ولا يذر، يفسد ولا يصلح، يرجع للخلف ولا يمشي للأمام، في حين أن الإسلام عندما ظهر رفع سقف الكرامة الإنسانية وحقوق المرأة والعبيد وغير المسلمين، إن الإسلام الذي يخفض مستوى الحقوق والحريات يناقض الإسلام الأول الذي رفع من مستوى ما كان موجوداً؛ لذلك فالمحافظة على ما كان في زمن مشى فيه الإنسان إلى الأمام هو نكوص وارتداد وتخلف عن الركب.
في زمن الحداثة المعولمة، وداخل منظومة الاستهلاك الرأسمالية الشرسة، وشبكات التواصل التي تسرق الوجود من الفرد بدون أن يدري، سيكتشف إنسان الغد أنه يحتاج أيما حاجة إلى وقت خاص به، يفكر فيه في نفسه وسر وجوده وكيفية وجوده، وسيجد أنه مسلوب الإرادة إجمالاً، وإن ظهر له عكس ذلك. فقد يستمتع بكل ما يمكن أن تقدمه الحداثة إلا الاستمتاع بنفسه الداخلية والحديث معها، فهي تسلبه إياها لأنها لا تريده أن يجد وقتاً ليفكر وينتقد، بل يجب أن ينقاد وحسب، ولست هنا أنقد الحداثة لرفضها بل أنقد فيها فقط بعضاً من مساوئها.
يحتاج الإنسان الحديث -بكل أطيافه وأديانه وألوانه وأجناسه- إلى "التوحد"، إلى "التوحيد"، إلى قول أن لا سلطة تعلو عَليَّ في هذا الوجود الذي أريد أن أفكر فيه ولأعيشه بإنسانية طبيعية خالصة غير متوحشة. في زمن "كل شيء يباع" حتى "اليوغا" أصبحت رياضة تُسَوق، عوض أن تكون لحظات تأمل خاصة! إن الحفاظ على عدد من الشعائر التقليدية أمر مهم؛ لأنه بمثابة الدفاع عن روح الإنسان وبساطته، ولكن دون التشدد في ذلك، ودون إجبار، الحرية أولاً، والعقل ثانياً، فلا حرية بدون عقل، ولا عقل بدون حرية.
لأنني أرى ما أرى من توحش حداثي وتوحش ديني، فإنني لا أرى طريقاً لـ"السلام الداخلي" إلا بإعادة الاعتبار لمفهوم الحرية والعقل في الدين إجمالاً، وفي الإسلام بالتخصيص؛ لأن فيه من المقومات والطاقات الفكرية والروحية ما يغني ويغذي إنسان الغد، صوناً له من التوحش في الاستهلاك، والتوحش في الفكر، والتوحش في التمذهب، والتوحش في التعصب.
إن التوحيد الذي ينبني على العقل الحر وحده السبيل إلى تحرير الإنسان من سلطة الإنسان، ليس بعد عقلانية التوحيد إلا الفراغ، وفي الفراغ يأكل القوي الضعيف، التوحيد نَقدٌ للفراغ، التوحيد مَلءٌ للفراغ.
المسلمون في الغرب هم الأكثر قدرة على فهم دور الدين إجمالاً في حياة الفرد في العصر الحديث؛ لأن السياق يسمح لهم بذلك، بإيجابياته وسلبياته، أما السياق العربي بالخصوص فالسياق لا يسمح بعد بفهم ذلك كما يجب؛ لأن الدين ما يزال دين الجماعة وليس دين الفرد، وفي الجماعة ينعدم الفرد، خاصة إذا كانت الحرية تنعدم داخل هذه الجماعة، فبدونها يغيب العقل، الحرية جهاد، والعقل اجتهاد، وذلك مستقبل الإسلام وإنسان الغد من أجل مشترك إنساني أفضل.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.