الحب هو الإيمان يا صديقي فلا تكفر به.. هذه الجملة التي كان يضعها أحد الأصدقاء على صفحته تحولت اليوم إلى أسلوب حياة نهجته لنفسي وبنيت عليه كل أسس حياتي وعلاقاتي مع الأشياء والبشر.
أن تحب شيئاً في هذه الحياة يعني أن تؤمن به إلى درجة التوحيد والعبادة، أن يصبح طقساً من طقوسك الذي تتلذذ بالخشوع في روحانياته، أن تؤمن بالشيء يعني أن تنصاع له قلباً وقالباً، وأن تكرس كل ما فيك له.
حين بدأت الكتابة، وجدت نفسي أهيم في تفاصيلها، أمضي ساعات في حضرتها دون أن أشعر بالملل أو أشبع من الانغماس في جمالية حروفها، كانت الكتابة سلاحي الوحيد الذي أحمله بكل شغف في وجه الحياة التي لا تتقاعس عن الزج بي في زنزاناتها المظلمة كلما أفرطت في التحليق بحرية، كانت الكتابة هي الميناء الذي ترسو عليه أفكاري بكل سلام بعد كل عاصفة تهز دواخلي، وتزرع الشك مكان كل اليقين الذي أهدرت العمر في تجميعه، كانت بقعة النور الوحيدة التي تذكرني أن على هذه الأرض أشياء كثيرة تستحق أن أحمل قلمي مجدداً من أجلها، كنت أحمله مرات كثيرة بيد مثقلة بالآلام، وأنفض عني كل التعب وأخرج به كل الكلام المكبوت بين قلبي وحنجرتي، وكنت أحمله مرات أخرى برشاقة فراشة أرسم بها الحروف مبتسمة، وأرقص كالطفلة بين الأسطر فرحاً.
لطالما ظننت أن الحزن هو أكثر ما يدفعنا للكتابة، وأن فواجعنا حطب يزند الإبداع ويضاعفه، كنت كلما لامس قلبي شجن أمسكت قلمي، وانتظرت أن توحي إلى لوعتي بشيء من الإبداع المخفي، كنت أعتصر الألم لأصنع منه ترياقاً أسكر به نفسي الحزينة وأداوي به ندبات الزمان التي تشوه قلبي، لكن سرعان ما فهمت أن الإيمان وحده هو ما يدفعنا للكتابة.
حين أصبت بأكبر نوبة حزن عشتها -منذ أصبحت أدرك ما الحزن- عجزت عن خط حرف واحد، وأعلنت بملء صوتي كفري، فقدت الكتابة كل القدسية التي كنت أمنحها، وضربت بكل إيماني وولعي عرض الحائط، حين غادرت أمي هذا العالم جربت نعيها بكل جوارحي، كانت أقصى رغباتي هي أن أمتلك شيئاً بسيطاً من قدرة الخنساء في رثائها لصخر، لكنني كنت أفشل في كل مرة وتثور نفسي على الإلهام الذي خانني، وأنا في أمَس الحاجة إلى القليل منه.
حين أصبح الحزن روتيناً يتسلل كالسم إلى بدني لم تستطِع حتى الكتابة أن ترقيني وتنقذني من لعنة القدر تلك، كان العجز يكبل أناملي، ويخنق آخر ذرات الإبداع العالقة بذهني، لم أعلم أن الحزن قادر على أن يجرد الإنسان من إيمانه، وأن يدفعه للردة عن كل ما كان بالأمس مقدساً لا يعبث به، وأن يجعله يضرم النار في الآلهة التي كان يختلي بها بكرة وأصيلاً، أحرقت كل مذكراتي وأوراقي، وألقيت بكل أقلامي وكل ما يمكنه أن يذكرني بعجزي تجاه أكثر شيء كنت أزعم إتقانه، ما أصعب أن تستيقظ وتجد أن كل ما كنت تؤمن به كان مجرد كذبة كبيرة، وأن الأضرحة التي بنيتها لتعتكف بها انهارت أمام عينيك ولا قوة لك ولا حيلة، ما أصعب أن يخونك إيمانك فلا يبقى أمامك سبيل سوى للكفر.
اليوم وبعد مضي سنة عن كفري ذاك، علمت أن لا مفر لي من العشق الأول، حملت قلمي بكل حنين وشوق، وعدت لأجد نفسي أكثر إيمانا ًمن أي وقت مضى، أديت مناسكي المعتادة بكل خشوع، وعلمت أن وقت عودتي قد حان لا محالة، بعد مضي سنة أمضيتها تائهة في سراديب الكفر، علمت أن الطبع يغلب بكل شراسة التطبع، وأن الإيمان يبقى قابعاً بدواخلنا مهما زعمنا الكفر، علمت أن الحزن الذي كان يدفعني قديماً لصياغة الكلمات لم يكن بحزن أكثر ما كان إيماناً بأن الشفاء سيكون على يدي الكتابة، إيماناً بأن الكتابة وحدها قادرة على إخراجي من أي حالة نفسية دون حاجتي لسرد قصتي على كرسي أي طبيب؛ لأحس بشيء من الراحة، إيماناً أننا وحدنا القادرون على إيجاد الحلول لأنفسنا.. علمت الآن فقط أن الكتابة فعلاً هي الإيمان.. إيمان لا يجب الكفر به.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.