متابعة للحديث عن رواية "تراب الماس" للكاتب أحمد مراد، فقد صورت مجتمعاً فاسداً يعيش في فصام، ويفتقد المنظومة القيمية التي ترتب أوضاع علاقات أفراده بعضهم ببعض، ويقاس بها الصواب من الخطأ، وهي رواية ثرية بالتفاصيل، بل حاشدة بها، تكاد ترى وتسمع الأحداث فيها من كثرة وتوالي تلك التفصيلات.
ومن حيث الشكل وأسلوب الكتابة، فأول ما هنالك هو أن المؤلف يكتب بالعامية، وشخصياً لا أحب أن أهمل لغتي، مهما أضافت العامية للقصة، أو أضافت لأي نوع من الكتابة، والعامية سائدة في عديد من الروايات الأخرى الحديثة، بل وفي الكتابات الصحفية والكتب، والكتابة بالعامية في ذاتها من ملامح افتقاد المجتمع للشخصية المحددة التي منها لغته، فضعف إيماننا بأنفسنا يجعلنا نستسلم لاستخدام العامية في الكتابة، وخطر هذا الاستسلام عظيم جداً.
والكاتب لا يكتب بالعامية فحسب، بل هو يحشد ما لا يحصى من التعبيرات العامية المبتذلة، على ألسنة كل شخوص القصة تقريباً، قد تكون هذه التعبيرات الدارجة منتشرة على ألسن المصريين حقاً، لكنها كانت أكثر مما يُحتمل على ألسن أشخاص القصة، وكانوا يتحدثون بنفس المستوى طوال الوقت، وهو غير منطقي نوعاً ما، ويتعمد المؤلف إطلاق العنان لنفسه في القول، فلا ينتقي الكلمات أو التعبيرات، وأتخيله يغافل وعيه، ويكتب ليخرج من قلمه ما يخرج، فلا يراجعه، فتشبيهاته وتمثيلاته غريبة، لا يحاول فيها أن يرسم المعنى بقدر ما يحاول أن يخرج لنا كل ما في داخله متصلاً بهذا المعنى، وهي مهارة تستحق الإعجاب، أن ينطلق قلمه كشلال جامح، مع أنه لم يكن من الضروري أن نرى هذا المستوى من الألفاظ بهذا الكم، حتى وإن كانت من الواقع، فهو وهو يقدم حالة وصفية غنية لأمراض المجتمع، فقد كان المنتظر أن يكون يملك رؤية لحالة مجتمعية أفضل، لكنه آثر أن يجعلنا نشعر أنه في انطلاق قلمه الجامح، لا يبالي بإمكان تحسن هذا المجتمع أو عدم إمكانه.
ومهارة أخرى يملكها المؤلف، تستحق إعجاباً أشد، هي استعانته الواضح أثرها بمتخصصين عندما يتحدث عن أي تفاصيل فنية، كمثل وصفه لتأثير تراب الماس السام وتطور أعراض الإصابة به، وكذا تأثير حقن الهواء التي قتل بها الضابط البلطجي، وغيرها من أمور تتصل بالمخدرات وما يضاف إليها، وهذه حقيقة من أفضل خصائص أسلوبه، كما بدا في هذا الكتاب، وكما بدا بدرجة أكبر في روايته الأشهر والأكثر إتقاناً "الفيل الأزرق".
من ناحية أخرى، فإنني كقارئ لم أستطع رؤية أبعاد شخصيات طه أو سارة أو وليد أو حتى البلطجي أو غيرهم، هم أشخاص يظهرون طوال الوقت في مواقف موصوفة بأشد التفاصيل، يتكلمون ويفعلون، لكن أعماقهم غائبة، لم يرسم المؤلف الشخصيات بحيث تأتي أفعالها منسجمة، وبحيث تكون ردود فعلهم على تحولات الأحداث متناسقة أو ممكنة القبول، هو لم يهتم بهذا، وفي المقابل يحشد التفاصيل في أي موقف، وهي تفاصيل وصفية للمكان أو شكليات الحدث، بإفراط، ينسى خلالها أن يقدم شخصياته، وما يدور في دواخلها بحيث تبرر ما يجري، هو يحكي لنا أحداثاً، لا يحكي لنا عن أشخاص تعيش تلك الأحدث، فننتهي من القراءة وقد علمنا ما فعله كل منهم، لكننا لم نتعرف عليهم بما يكفي، فبقيت الشخصيات في حاجة إلى المزيد من التوضيح، تقفز من حدث لحدث، ومن حال لحال، فهي شخصيات لا تنمو، أو ربما تفعل ذلك، ولكننا لا نرى إلا ظواهر أفعالها، ونواتج أفكارها، دون الأسس التي تبني عليها تلك الأفعال والأفكار، ويرتبط هذا في الحقيقة بافتقاد المجتمع ذاته للتوصيف الذي يأتي بطبيعة الحال من المنظومة القيمية الحاكمة فيه، المفقودة في حالتنا هذه.
ولأنهم لم يتم بناؤهم، فقد كان المؤلف مضطراً أحياناً لأن يدفع الأحداث دفعاً، نحو ما صارت إليه؛ لأنه لو ترك شخوصه تتحرك، فلن تكون مضطرة أن تفعل ما يتوقعه هو، ولو كان أتم بناء كل شخصية، وصنع بنية قيمية، للمجتمع الذي يعيشون فيه، لوجدهم يتفاعلون فيما بينهم بحسب رؤيته لهذا الواقع، مع لمساتهم الخاصة، وهذا بالتحديد هو مقتضى منظومة القيم المجتمعية، وبدلاً من ذلك، فقد اضطر إلى دفع الحوادث بنفسه، فجاءت في بعض الأحيان كطفرات، أو كمفاجآت الأفلام العربية الكلاسيكية، وعوضنا المؤلف عن ذلك بكم من التفصيلات جاوز الحد أحياناً، ولولاه لكانت القصة ضعيفة.
هو يبني بناء ضخماً ثرياً بالملامح، لكن ثغراته كثيرة، فيغطي على ثغرات البناء بإغراقنا بالتفاصيل، فننشد للتفاصيل ونلهى عن ثغرات البناء، إلا أن التفاصيل الكثيرة أثارت التساؤلات عن طبيعة البناء، ووصلت بنا إلى السؤال الأهم وهو: أي منظومة قيمية يقوم على أساسها هذا البناء؟
فبعد الرحلة الطويلة الشائقة مع "تراب الماس"، ورغم بقاء البطلين والنهاية السعيدة، التي حققاها، فإنني لم أخرج بتصور ما عما قد أصنع أنا في تفاعلي مع هذا الواقع؛ لأنني أنا أيضاً أعيش فيه، فهو لم يساعدني على فهم الواقع بقدر ما أراني فقط مشاهد كثيرة منه، وظل يدفعني دفعاً نحو فكرة أن الغاية تبرر الوسيلة، وأن منظومات القيم الاجتماعية لا داعي لها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.