سأتحدث هنا عن الأوقاف الكبيرة التي ستتم الاستفادة من دخلها وريعها من ناحية اقتصاديّة وإدارية، يتشارك في هذا النوع من الأوقاف العائلات والجمعيات الخيرية؛ حيث يتم وقْف الشيء بغية الانتفاع من دخله.
وقد لاحظت أن الكثير من الجمعيات الخيرية الكبيرة تحرص على أن يكون الوقف عقاراً سكنياً على الأغلب في مكة المكرمة داخل حدّ الحرم لزيادة الأجر والبركة، وأود هنا أن ألفت النظر إلى أنه ينبغي أن لا نحصر مفهوم الوقف على العقار السكني فقط، فقد يكون الوقف سوقاً تجارية، أو شراكات في مصانع أو تجارات ومزارع، أو أسهماً في شركات أو مدارس وجامعات أهلية، أو فنادق تجارية، أو مستوصفات ومستشفيات، طالما أنها مدرة للدخل ومستقرة.
القرى الصغيرة والنائية قد تكون بأشد الحاجة لمستوصف تجاري أو قاعة احتفالات أو مجمع محلات تجارية أكثر من احتياجها لعمارة سكنية أخرى كوقف ليتم تأجيرها!
تبنّي هذه المشاريع التجارية والصناعيّة المختلفة كأوقاف ليس له فقط منافع ماديّة، بل أيضاً قد يسهم في خلق فرص وظيفية وتنموية لمجتمعات هذه القرى، ولكنها تحتاج لأكثر من شخص للقيام بها.
مثال على تنوّع الأوقاف قرأت أن أحد التجّار أسّس شركة للأوقاف تحتوي أصولها على أسهم في بنك، ومزرعة تمر، وشركة ألبان، وشركة ربيان.
أغلب الأوقاف أبديّة؛ لذلك لا بد من صيانتها والحفاظ عليها، فينبغي تخصيص جزء عادل من الدخل لتخصيصه لصيانة هذا الوقف، وجزء آخر لتنميته وتكبيره.
الأوقاف في صورة عقارات سكنيّة، تتكوّن من أرض ومبانٍ، وفي حالة تهالك المباني (ومع اعتبار شروط الواقف) قد يعاد استثمار الأرض في صور أخرى غير مبانٍ سكنيّة، وعلى حسب احتياج المنطقة المحيطة بهذا الوقف، قد تكون فكرة إنشاء مجمع محلات تجاريّة أو مستودع أو مواقف سيارات بالساعة أجدى اقتصادياً من إعادة بناء مبنى سكني وتأجيره.
بالنسبة للعائلات:
قد جرت العادة في كثير من العائلات على أن يتولى "ناظر" واحد من أفرادها القيام بإدارة شؤون الأوقاف في العائلة، ومع مرور الوقت وزيادة عدد فروع العائلة وأفرادها وزيادة الأوقاف ونموّها والحاجة لصيانتها ومتابعتها، قد يكون من الصعب على شخص واحد القيام بجميع المهام المناطة بالناظر على أكمل وجه.
كما أنه قد جرت العادة عند السلف على أن يتم التخفيف في شروط تطبيق الوقف وعدم التضييق بكثرتها، وهذا شيء جميل حقاً، وفي بعض الأحيان قد نرى بساطة في سرد طريقة إدارة الوقف، ولكنه مع مرور الزمن وتعقيدات الحياة وتغيّر النفوس، قد يكون من الأفضل لمن أراد أن يوقف في زماننا الحاضر أن يهتم بتوضيح طريقة إدارة الوقف وتنظيمها؛ لذلك أقترح بعض الخطوات العمليّة (التي قد تسهم في زيادة كفاءة إدارة الأوقاف وزيادة إنتاجيّتها) بشرط عدم الإخلال بشرط الواقف أو تعطيله، مثل:
مجلس النظارة:
– الهدف من تبني فكرة المجلس هو لتنفيذ شرط الواقف كما ورد في صك الوقف على أكمل وجه.
– يراعى عند إنشاء هذا المجلس أن:
– كل فرع من العائلة يقوم باختيار شخص واحد أو أكثر ليقوم بتمثيله.
– يشكل مجلس "نظارة" على نفس منهجية (مجلس الإدارة للشركات)، يكونون جميعهم مسؤولين أمام بقية أفراد العائلة عن أداء هذا الوقف، وننصح بأن يحتوي هذا المجلس على دماء شابة ذات مؤهلات متنوعة ملائمة للوقف، سواء كانت إدارية أو مهنية أو ميدانية.
– ينبغي لجميع أفراد العائلة أن يختاروا أفراد هذا المجلس؛ ليكونوا فريقاً متجانساً ومتوافقاً لا تسوده أي مشاحنات أو خصومات.
– تكون ضمن مهام هذا المجلس تعيين أفراد أو شركات للتحصيل والصيانة، وتنفيذ شرط الواقف في (الموقوف عليهم هذا الوقف).
– يتم تخصيص نسبة معينة من إيرادات الأوقاف على صيانتها، ونسبة أخرى يتم تجنيبها لإعادة الاستثمار وتنمية الموارد إذا لم يكن في هذا تعارض مع حجة الوقف.
– يتم وضع آلية للتصويت لاتخاذ القرارات (مثلاً بالإجماع أو الأغلبية).
– يقوم مجلس النظارة بتقديم عرض سنوي لإنجازاته، ويتم تغيير أعضاء هذا المجلس ورئيسه بشكل دوري بعد مرور مدة زمنية معينة.
– بعد النظر لشرط الواقف، وإمكانية تنويع أشكال أخرى للوقف، يقوم هذا المجلس بدراسة فرص الدخول في استثمارات أخرى لتنمية هذا الوقف.
– ينبغي على هذا المجلس أن يسعى لنشر المعرفة في أفراد العائلة وتثقيفهم على شروط الوقف وأسس إنفاق غلّة الوقف والنتائج السنوية لهذه الغلّة.
– تعيين مراقب محاسبي وشرعي للوقف.
المرونة:
كثير من أوقاف العوائل في مكّة المكرمة والمدينة المنورة ذهبت في توسيعات الحرمين، وقد تم تعويض الكثير منهم مادياً، هنا ينبغي أن نفهم جيداً بُغية الواقف (خاصة إذا وُجِد شرط للوقف أن يكون داخل حد الحرم)، فإن كان الهدف الرئيسي هو الاستفادة من عوائد الوقف، فإنني أرى أن نفتح أذهاننا لنماذج أخرى للوقف غير العمائر السكنيّة، فقد تكون الجدوى الاقتصادية (وفرص أن نجِد بديلاً للأوقاف السابقة ونحقق شرط الواقف) في فنادق على سبيل المثال أو عيادات ومراكز طبيّة أو مدارس أهليّة أو أسهم في شركات تعمل داخل حد الحرم.. إلخ.
أجور القائمين على الوقف وأتعابهم:
– لا يوجد وقف ناجح على مر العصور لم يخصّص نسبة واضحة من دخل الوقف على القائمين بشؤون إدارة الوقف سواء رواتب أو مكافآت سنوية.
الشفافيّة:
في رأيي الشخصي فإن جلّ أسباب الشحناء والأحقاد بين أطراف أي عائلة في ما يتعلق بالأوقاف مردّه إلى انعدام الشفافية، فلا بد (من وجهة نظري) إطلاع الجميع على نص حجّة الوقف، وشروط الواقفين، وكيفية احتساب أجور القائمين على الوقف، وهل يوجد شروط على "ناظر" الوقف؛ لذلك وجود مجلس لإدارة شؤون الأوقاف عند العوائل هو الطريقة المثلى من وجهة نظري لتعزيز الشفافية واستدامة الترابط الأسري.
استخدام التقنية الحديثة:
في تخصيص حساب بنكي منفصل لعوائد الأوقاف، يتم إطلاع من رغب عن تفاصيله، وتتم برمجة حسابات المستفيدين البنكيّة أو الجهات (الموقوف عليها)؛ ليتم تحويل المخصّصات في وقته إلكترونياً لتخفيف المشقة عن الجميع.
تم اقتباس واستلهام الكثير من الأفكار المطروحة هنا من حجج لأوقاف وأفكار من أهل الخير.
وفي الختام أود أن أشجّع الجميع لتبنّي فكرة الوقف، سواء الخيري أو الأهلي، وعدم الإجحاف في حق الذريّة، كما كان يحدث أحياناً للأسف في الماضي (على سبيل المثال يشترط الواقف أن يذهب ريع الوقف على الذرية الذكور فقط، أو أبناء الظهور فقط، إلخ…).
أسأل الله العظيم أن يوفقنا لكل خير ويتقبّل اجتهادنا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.