لعل أكبر المغالطات والأفكار السائدة في مجتمعنا أن الإنسان العربي كسول بطبعه، ويميل إلى النمطية، واتباع خطى أسلافه في أي طريق اختار أن يسلكه، وذلك لعدم اجتهاده في إغناء رصيده المعرفي في مجالات أخرى غير مجال تخصصه، فكثيراً ما سمعنا مثلاً أن أغلب الأطباء لا يجيدون صياغة جملة أدبية مفيدة، وأنهم لا يجيدون الحديث إلا عن العلات والعلاجات التي درسوها في كلية الطب، وبأن علاقتهم مع القلم لا تتعدى لحظة كتابة الوصفة الطبية لمرضاهم.
"معاني الحياة"، هي فكرة شاء لها القدر أن ترى النور قبل أيام على يد ثلة من الشباب، منهم أطباء، أو بالأحرى شحنات آدمية من الطاقة الإيجابية تمشي على قدمين، شباب يبحث عن المعنى، بل هو المعنى، يعرف فريق www.Maany.life مشروعهم بكونه "موقعاً يروج نشر الفكر الراقي والمعاني الهادفة لعموم الناس، بأسلوب سلس وسهل، خالٍ من التعقيد، من خلال مقالات وإنتاجات مرئية"، تهدف الفكرة أيضاً إلى "إثراء المحتوى العربي بمواد تدفع إلى إثراءِ العقل في أمور الدّنيا، وإشراك النفس والروح في الإجابة عن الأسئلة الجوهرية التي تلامس مختلف مناحي الحياة…".
ما إن عرفت أن فريق "معاني الحياة" يضم أطباء تذكرت حديثي قبل أيام مع بعض الأطباء والممرضين حول ظروف عملهم، تجاذبنا أطراف الحديث لبعض الوقت، فقلت لهم إنني أغبطهم على كم الخير الذي يقدمونه للمرضى، خاصة أن هناك إجماعاً على أن السعادة تكمن في العطاء، إلا أنني علمت أن منهم من يعيش على مضادات الاكتئاب، ويعانون من أمراض سببها التوتر، والسبب هو كثرة المداومات وساعات العمل الطويلة التي قد تتجاوز الاثنتي عشرة ساعة في اليوم الواحد، وضغط قسم المستعجلات في ظروف أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها مزرية لدرجة تنعدم فيها الإنسانية أحياناً… حزنت لحالهم وما كان بيدي إلا أن أنصحهم بمحاولة التنفيس عن ذواتهم من خلال أنشطة يمارسونها بعد الدوام والدعاء لهم بصلاح الحال.
هي مفارقة عجيبة عشتها في ظرف أسبوع واحد، استنتجت منها أن السعادة تنبع من الداخل، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمعاني التي نكونها عن الحياة، فنفس الظروف والضغوط التي قد تولد سخطاً عند البعض يمكن أن تفجر إبداعاً عند آخرين، عل نشوة الفرحة بنجاح فكرتهم تبعث فيهم سبباً من أسباب السعادة في نهاية يومهم، فتخفف عنهم بعضاً من ضغوط الحياة التي لا ترحم.
ما أحوجنا في هذا العصر إلى مثل هذه المعاني الصادقة والعميقة التي تفجر داخلنا معين الحياة، وتجعله يسيل مدراراً لا ينضب، فغياب المعنى في حياة الإنسان يجعله يتخبط في حالة من العبث الصارخ تتقاذفه رياح الضلال العاتية، فتصبح أفعاله كاللعب في حالة شرود في أماكن خطرة، أو كمن يمضي ثابت الخطى معصوب العينين نحو هلاكه المبين، هذا الضياع الذي يجعله يتعلق بحبال من هواء تنتشله مما هو فيه، ما يفسر أزمات القيم والمبادئ والهوية والتطرف، بل وحتى الحروب الأهلية ودمائها التي تكاد تغرق الأوطان، وتسد منافذ الحياة بأسمى معانيها على شعوبها.
استوقفتني كثيراً فكرة هؤلاء الشباب، فلطالما شغلتني أفكار حول هدفي في الحياة، حول المعاني التي أؤمن بها وتجعل مني ما أنا عليه الآن، وتقودني إلى ما سأكون عليه غداً، حول البصمة التي سأتركها من بعدي، أهم معاني الحياة يمكن تلخيصها في نظري بأن تسخر أجمل ما فيك لخدمة الإنسانية ما استطعت إليه سبيلاً، وأن تدرك أيضاً أن الانتصار على شهوات النفس ونزغات الشيطان هو طريق صعب بحق، لكن له لذة عظيمة لا يتذوقها إلا العظماء.
الحياة هي رحلة البحث عن المعاني، عن التميز، عن بذور نغرسها في تلك المضغة التي إن صلحت صلح معها الجسد كله، ألا وهي القلب، والمعنى هو الجوهر، هو ذاك البعد الوجودي الذي به نعيش حياة سعيدة مكتملة الأركان، ذلك الكنز الدفين الذي حبا به الله بني البشر، وأمرنا بأن نبحث عنه في أعماقنا، ذاك السر الذي يتحقق بالتفكر والتدبر اللذين أمرنا بهما دين الحق. في المنظور الفلسفي، المعاني هي تلك البوصلة التي بها نجيب عن كل الأسئلة الوجودية التي ظهرت مع الإنسانية، وتستمر بعدنا إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.
أن يكون لنا معنى في الحياة لا يعني فقط أن نحدد أهدافاً نعيش من أجلها، بل أيضاً أن نختار الظروف والأشخاص الذين يساعدوننا على تأدية الرسالة على أكمل وجه، وتحقيق ذلك التوازن والانسجام مع فطرتنا وإنسانيتنا ما يصنع منا بذلك شباباً فاعلين، موظفين متفانين، مواطنين صالحين، آباء وأمهات مسؤولين، حكاماً عادلين… وبالتالي ينشئ مجتمعاً ناجحاً ومتكاملاً. أعلم أن الوصف أقرب ما يكون للمدينة الفاضلة لأفلاطون، وهذا حلم سريالي صعب المنال، لكن الأفكار تحتاج لمن يؤمن بها حد اليقين، تلك أولى خطوة نحو تحقيقها على أرض الواقع.
وأختم هنا بأكثر خواطر سيد قطب تأثيراً في نفسي وأبلغها معنى، خاطرة مقتبسة من كتابه "أفراح الروح"، (الخاطرة الرابعة عشرة): "إن المبادئ والأفكار في ذاتها -بلا عقيدة دافعة- مجرد كلمات خاوية أو على الأكثر معانٍ ميتة! والذي يمنحها الحياة هي حرارة الإيمان المشعة من قلب إنسان! لن يؤمن الآخرون بمبدأ أو فكرة تنبت في ذهن بارد لا في قلب مشع. آمِن أنت أولا بفكرتك، آمِن بها إلى حد الاعتقاد الحار! عندئذ فقط يؤمن بها الآخرون! وإلا فستبقى مجرد صياغة لفظية خالية من الروح والحياة!…".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.