المتاجرة بالتبرعات

وتعد المتاجرة بالتبرعات من أبرز الأمثلة التي توضح انعدام الشفافية بين المنظمة والمتبرع وانعدام الإنسانية كذلك بينها وبين المتلقي، وهو الأمر الذي أصبح شائعاً بين الكثير من المنظمات الإغاثية الدولية في العقدين المنصرمين، حيث تستغل هذه المنظمات سخاء المتبرع وضعف الفقير وصوته الخافت في المطالبة بحقوقه.

عربي بوست
تم النشر: 2016/08/15 الساعة 04:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/08/15 الساعة 04:55 بتوقيت غرينتش

لا شك أن للمنظمات الخيرية والإغاثية دوراً كبيراً في تنمية المجتمع وإغاثة المنكوبين وتحسين الأوضاع المعيشية للفقراء في كل مكان والحد من تدهورها، بغض النظر عن الجنسية أو العرق أو اللون.. فالإنسانية لا تحدها قومية أو وطن؛ لذلك يتم منح هذه المنظمات صلاحيات واسعة ومساحة كبيرة للتحرك من خلالها، حتى في مناطق النزاع والحروب، بالإضافة إلى القدرة على جمع التبرعات المالية والعينية بيسر وسهولة، وتعتبر التبرعات هي الوقود لأي عمل خيري محلياً كان أو دولياً، والذي بفقده تتعثر هذه الأعمال وتتوقف ولا يستمر دخل المنظمة من التبرعات إلا من خلال ثقة المتبرعين في أمانتها وشفافيتها إلى جانب حرصها على إيصال هذه التبرعات والمساعدات إلى مستحقيها من المحتاجين على مستوى العالم، حيث تعتبر الثقة والشفافية وجهين لعملة واحدة وهما مصدر توازن العمل الخيري والإغاثي، كلما قلت إحداهما تأثرت الأخرى.

وتعد المتاجرة بالتبرعات من أبرز الأمثلة التي توضح انعدام الشفافية بين المنظمة والمتبرع وانعدام الإنسانية كذلك بينها وبين المتلقي، وهو الأمر الذي أصبح شائعاً بين الكثير من المنظمات الإغاثية الدولية في العقدين المنصرمين، حيث تستغل هذه المنظمات سخاء المتبرع وضعف الفقير وصوته الخافت في المطالبة بحقوقه.

حيث يتم التبرع بأطنان من الملابس المستعملة يومياً في الدول الصناعية والأوروبية ويعتقد الأغلبية العظمى من المتبرعين أن منظمات الإغاثة تبعث بها إلى المحتاجين حول العالم كما هو المفترض لها، ولكن ما يحدث في الحقيقة هو أن هذه الملابس تصل بالفعل إلى فقراء العالم، ولكن ليست كهبة أو تبرع وإنما كسلعة تجارية يبتاعها الفقير القادر ويبقى الأقل فقراً يعاني ويضنيه تأمين قوت يومه أكثر من تأمين الكساء له ولأبنائه، ولكن كيف تبدأ هذه الملابس كتبرع وينتهي بها المطاف كتجارة وما مدى تأثير ذلك على مستحقيها من الأساس؟

في ألمانيا وحدها يتم التبرع بأكثر من ألفي طن من الملابس المستعملة كل يوم؛ ولذلك وضعت منظمة الصليب الأحمر الوطنية حاويات، خاصة بهذا الأمر في كافة المناطق والمدن، ويكلف الصليب الأحمر شركة خاصة يعيرها اسمه لتقوم بمهمة جمع وفرز الملابس وإفراغ الحاويات مرةً كل أسبوع بدلاً من إنجازهم هذه المهمة بأنفسهم، معللين ذلك باحتواء كل منطقة على أكثر من 98 حاوية وأنه من غير المجدي اقتصادياً إفراغها بأنفسهم، وبالرغم من هذه المبررات، إلا أن القليل من فروع الصليب الأحمر الأخرى تقوم بمهمة الجمع والفرز من خلال متطوعيها دون الحاجة لشركة خاصة أو وجود أي عائق أو تكاليف إضافية عليها، ولكن قد تتضح الأسباب أكثر عندما تكون الشركة المعنية بجمع وفرز ملابس التبرعات هي شركة (سويكس) إحدى أهم وأكبر الشركات المتخصصة في تجارة الملابس المستعملة على مستوى العالم، والتي بدأت شراكتها مع الصليب الأحمر منذ ما يقارب 40 عاماً وهو ما جعل أساليب جمع الملابس تختلف منذ ذلك الوقت.

وينتهي المطاف ببعض ملابس التبرعات بعد جمعها في مستودعات الصليب الأحمر لتخدم محتاجي الداخل وفي حال اكتفائها وهو ما يحدث غالباً، لا تتجه هذه الملابس إلى مستحقيها في إفريقيا كما هو مفترض وكما يعتقد المتبرعون والمتطوعون، وإنما تتجه إلى مستودعات سويكس، حيث يقوم الصليب الأحمر ببيعها مقابل 50 سنتاً للطن بحسب الاتفاقية المبرمة بينهما، وهو ما يتفق مع قوانين المنظمة، ولكن لا يتفق بكل تأكيد مع قوانين الإنسانية، وتعزو المنظمة أسباب بيع التبرعات إلى استخدام مردودها المالي في الأنشطة الأخرى التي لها أولوية حسب تصنيف المنظمة، وابتداءً من هذه الصفقة لم تعد هذه الملابس تبرعات وإنما جزءاً من تجارة لا تعرف الرحمة لها طريقاً بالنسبة لشركة سويكس وشركائها الذين يستهدفون الربح في المقام الأول؛ لذلك يتم تصنيف هذه الثياب بناء على جودتها، فالمتميز والجيد منها يباع لتجار الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية، وذو الجودة السيئة أو الرديئة يباع لتجار إفريقيا والدول الفقيرة، وذلك حسب القدرة الشرائية للأفراد في تلك البلدان بما يضمن عدم تكدس الملابس وسهولة بيعها وتصريفها، وبالتالي تعاد الكرة وتستمر هذه العمليات التجارية مرة بعد أخرى، حيث إن مصدرها الرئيسي لا ينضب وهو استغلال الإنسانية.

إن منظمة الصليب الأحمر الألمانية وغيرها من منظمات الإغاثة الأوروبية التي تتبع نفس النهج لم يتوقف دورها عند صفقة بيع التبرعات أو الاكتفاء بعدم إيصالها لمستحقيها، وإنما امتد أثر هذه الصفقة وطالت عواقبها السلبية أغلبية الدول المستقبلة لهذه الملابس ولا سيما الفقيرة منها، فقد ساهم الصليب الأحمر بقصد أو دون قصد في زيادة أوضاعها ومعاناتها سوءاً، وتدهور أوضاع الفقراء فيها، بالرغم من كونها أول المعنيين بإغاثتهم ونفض غبار الفقر والجوع عنهم، وتعد أبرز الأمثلة على تلك الدول هي تنزانيا، والتي تعتبر من أهم وأكبر الدول المستقبلة للملابس المستعملة من أميركا والدول الأوروبية، حيث تضع السفن شحناتها التي تتجاوز 20 ألف طن كل شهر في ميناء دار السلام أكبر مدن تنزانيا والتي يعيش بها أكثر من 3 ملايين نسمة بمستوى دخل لا يتجاوز يورو واحداً في اليوم، ويرتدي غالبية سكانها الملابس الأوروبية القديمة والتي تعرف هناك باسم (ميتومبا)، وقد تسببت تجارة الملابس المستعملة في تنزانيا إلى انهيار صناعة الملابس المحلية وإغلاق مصانع النسيج الوطنية منذ حوالي عشرين عاماً، حيث لم تتمكن الصناعة الوطنية من منافسة هذه الملابس زهيدة الثمن، والتي تعتمد كل تكلفتها على الفرز والنقل فقط؛ مما استحال إنتاج مثلها محلياً وبنفس الأسعار وهو الأمر الذي أدى إلى ارتفاع نسبة البطالة وتراجع عدد العاملين في قطاع الملابس من ثمانين ألف عامل في تسعينيات القرن الماضي إلى خمسة آلاف فقط في وقتنا الحاضر والمستقبل غير مبشر بالنسبة لهم، فبحسب ما صرح به (راجيف أرورا) المدير التنفيذي للاتحاد الإفريقي لصناعة المنسوجات والقطن في أكتوبر 2014، أنه تم إغلاق أكثر من 85% من مصانع النسيج في تنزانيا وكينيا منذ بداية هذه التجارة، مما أدى إلى انكماش إنتاج القطن إلى 10% عما كان عليه في التسعينيات، وبالتالي انخفاض معدلات التصدير إلى أدنى مستوياتها مقابل معدلات الاستيراد.

ويعيش حالياً آلاف العمال الذين تم تشريدهم ليس فقط في تنزانيا وإنما في كل الدول الإفريقية المستوردة للملابس المستعملة في فقر مدقع، يمتهنون أبسط الأعمال اليومية والتي لا تكفي أحياناً لإسكات جوعهم وإشباع بطون أبنائهم، فيصبح الشاي هو وجبتهم الوحيدة في اليوم عندما يتعذر عليهم شراء الأرز، وبالرغم من تلك التداعيات السيئة على الاقتصاد المحلي وزيادة نسب البطالة وأعداد الفقراء في المجتمع، إلا أن التجار الوسطاء وهم المستوردون لتلك الملابس وأول من يدخلها إلى تنزانيا -وتكون أغلبيتهم من العرب والأجانب وليس أبناء البلد- ما زالوا يعتقدون أن تجارتهم هي بمثابة خدمة مقدمة للفقراء ألا وهي توفير الملابس الفخمة لهم والتي تحمل أسماء وعلامات دور الأزياء العالمية مقابل أسعار زهيدة، وهي الأسباب التي تثير السخرية في دولة تعتبر الأعلى عالمياً من حيث نسبة الأمية بحسب التقرير العالمي لرصد التعليم الصادر عن الأمم المتحدة لعام 2014.

وبالتالي خرجت كافة أطراف هذه العملية مستفيدة ورابحة من منظمات إغاثية، وشركات تجارية، وتجار وسطاء بالإضافة إلى تنشيط التجارة والأثر الإيجابي على اقتصاد الدول المصدرة، فنجد أن قيمة صادرات الثياب المستعملة الأميركية هي 685 مليون دولار سنوياً، بينما يبقى الفقير هو الخاسر الوحيد، والذي كان من المفترض أن تقع عليه الاستفادة الأكبر، فبدلاً من أن يحصل على هذه الملابس كتبرع وهو السبب الأساسي التي جُمعت من أجله، فإنه يضطر إلى شرائها وهو ممتن لتلك الدول التي وفرتها له بهذه الأسعار أو الامتناع عن ذلك إذا كان لا يملك ثمنها، ومما لا شك فيه أن المنظمات الخيرية الإغاثية لها حق التصرف فيما تجده ملائماً لتحسين خدماتها ويناسب الاحتياجات الضرورية للمتلقين، ولكن من المؤكد أيضاً أن هذا الحق يتوقف عند حدود عدم الإضرار بحقوق الآخرين والتسبب بأي آثار سلبية على المجتمعات الأخرى نتيجة ممارسة هذا الحق، وإلا أصبح هذا الأمر متعمداً لإحداث العطب ثم التفضل بمعالجته،.

ولا يمكننا إلقاء اللوم على المتبرعين أو المتطوعين في هذه المنظمات أو التشكيك في نواياهم الصادقة لمساعدة الفقراء ورغبتهم الحثيثة في الحد من معاناتهم، حيث يعتقد هؤلاء أن كافة تبرعاتهم تذهب مباشرة للمحتاجين، وهو ما ثبت عكسه بعد ذلك وبأساليب مختلفة، فعلى سبيل المثال أوضح التقرير الصادر عن مؤسسة الحقيقة والنزاهة البريطانية لعام 2015 أن 20% من الجمعيات الخيرية البريطانية، والتي يبلغ مجمل دخلها السنوي ستة مليارات جنيه إسترليني تنفق أقل من نصف هذا المبلغ على المشروعات الإنسانية، فيما يتم إنفاق باقي التبرعات على الدعايا والإعلانات والرواتب والمصروفات الإدارية، مما أثار الريبة في نفوس المتبرعين من الغرض وراء جمع تلك التبرعات ومآلها الأخير وإحجامهم بشكل كبير عن هذه المنظمات، وهو ما يتيح المجال للتشكيك في نوايا القائمين على الكثير من المنظمات الخيرية والإغاثية الدولية، ومدى نزاهتهم وأهدافهم التي لم تخلُ من المصلحة والمنفعة الشخصية بما يأتي على حساب الدور الخيري الحقيقي المنوط بهم ودورهم في خدمة الصالح العام والإنسانية، وهو ما يستدعي ضرورة التنبه وتشديد الرقابة على هذه المنظمات وأنشطتها من الدول التابعة لها في حال كانت ضد هذه العمليات التجارية ورافضة لها، أوعلى أقل تقدير تقنينها بما لا يؤثر على اقتصاديات الدول الفقيرة ويقضي على أمل الفقير في حياة كريمة ومعيشة أفضل، وذلك تحت مسمى مساعدته ومد يد العون له.

المصادر:
جريدة المال 21 أكتوبر2014
http://www.almalnews.com/Pages/StoryDetails.aspx?ID=186888
http://ara.reuters.com/article/idARAL6N0SX23220141107
http://www.al-jazirah.com.sa/magazine/15032005/karg11.htm
https://www.alarabiya.net/ar/programs/special-mission/2016/03/05/المتاجرة-بالتبرعات.html
http://www.goethe.de/ges/phi/prj/ffs/the/104/ar15051242.htm

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد