عن طيف دافئ المرور يطل علينا بين الحين والآخر بمجرد خفقة قلب بريء اهتزّ فور استشعاره بحالة عشق، أو هُيامه بذكرى خفيفة هبّت نسائمها.. تتحرك الشفاة دون المثول لأمر وتُرسم بسمة خفيفة كاشفة عن أسرار قلب حاول تجاهل صوته ففشل..
عن حديث غابت فيه الكلمات واحتلت مكانها نظرات ترجمت فوضى دقات القلوب وباحت عما يختلج الأنفاس..
عن ساعة أُنس اختلَّت فيها الموازين وغاب فيها العقل ليترك القلب حائراً بين بوح أو سكوت، أو تعبير بقول أو تعبير بغير تعبير، بين لطخات كلام غير مفهوم وحركات لا إرادية مبهمة عفوية..
عن الشعور باللاوجود وكأننا في نسيج أرواح تحلق بعيداً عن كل ملموس، عن اللاشعور بأطياف البشر
وغياب الإدراك وكأن بالحواس قد تخلّت عن صاحبها فلا سماع للضجيج الذي من حولنا ولا رؤية لأشخاص بحذونا، كأنهم سراب مخلد لا ينتمي إلى فيض الحلم الموجود.
أن تُحب يعني أن تنسى أنّ قدمك تطأ الأرض، أن تحلق بعيدا بعيدا جداً..
أن تألف كياناً من روحك، نسخة من نفسك أن تنسى اسم الصاحب أو أنّك لم تألفه بعد، أن تجرّب أن تنادي لعلك تطفئ حمم الشوق فيك فلا يستجيب لك لسانك ويصرخ قلبك مرغماً نفسك 'أنا هنا يا أنا'..
أن تخون كلماتك الأحاسيس، ويغيب عنك التوصيف، أن تعجز أناملك أن تكتب، ويخيب لسانك أن ينطق بقطرة من فيض عشق أو من سيل حنين.
وللحب لغة خاصة ولحن فريد، فالصمت في حضرة الصاحب حديث و إشارة العينين تجاوب وإيقاع نبضات القلب عنوان لرسالة عميقة البدء أو لقصيدة متناهية الأبيات أو لمعزوفة تواتر الأنفاس التي تسرد حكايا بلا نهايات، فشهيق يسرد تشاطر الأرواح وزفير سريع ينذر بشهيق قريب.
ولئن أدار لك العالم ظهره وتركك الجميع تتخبط في وحل همومك، مكبلاً بعيوبك، تائهاً في بحر نفسك، لتجدن دفء روحك في أطياف منك وفيك.
مهما صدتك الحياة احتضنتك بشدة، أمسكت كلتي يديك بقوة، ولم تسبهما ولو للحظة..
والداك من أسرّا سرك وأمّناه، إخوتك من تعالت عليك الدنيا أُنسك أينما حللت.. وطبطبة خلان في تلعثم زمان، وسؤال صديق في ساعة ضيق.
هؤلاء مدرستك الأولى، حضنك الدائم حيث لا واشي و لا خائن، مرتعك أينما تختنق وتلتف حول رقابك الهموم، ملجأك أين تخرُّ قواك ويُكشف ضعفك، حيث تبكي وبشدة..
ألفنا المشاعر بين البشر، عرفنا الدقات بين النفوس وتربينا على حب من نوع آخر لا يقترن ببشر ولا بجماد، واسع بقدر اتساع سماء الدنيا وضيق بقدر تفاوت الموجود عن المنشود..
يبدأ الطفل الصغير المشي، يبدأ أول اتصال جسدي بين المرء وتراب الأرض، يمشي متشبثاً شادًّا أصابعه الصغيرة بقوة خوف السقوط، يستأنس الأمر، يخطو خطوات حتى يجري متوازناً خفيف الخطى وقد تحررت أصابعه من التمسك غير عالم بأن أجنحة قلبه لن تخرج أبداً عن حالة التشبث بتلك الأرض الواسعة وتلك التربة النديّة..
حُب الوطن ابتلاء عذاب مفروض أو إرادة حرّة لا أعلم إلى الآن تفسير ما نحسّه تجاه رقعة جغرافيّة تاريخ مرسوم أو تراب منثور.. ولكن ما أنا به متأكدة أنك لن تستطيع ولو حاولت تجاهل هذا الرابط المستديم.. نعيش كهولاً في سنّ العشرين متثاقلي الهموم.. اخترنا البعد فأبت النفوس، تساقطت الجفون مبتعدة عن وطأة الواقع فأبت العيون انحراف الرؤى.. نعيش غرباء كأرواح متطايرة أو كسفن دون مرساة، في محيط تلاشت فيه القيم وتناست فيه معاني الحياة. نعيش أحزاناً ووجعاً طويلاً ليس له نهاية، نشعر بالعجز، نعيش العجز، يتملكنا العجز وما أبشعه من شعور مقيت..
لعلّ عدم وجود نهايات للأرقام جعلنا في حالة الانتظار الدائمة، لا نهاية لطمع ولا لكره ولا لاستعلاء.. لا نهاية لظلم لألم لخضوع..
. كُنّا شديدي اليقين أن ننشد حياة تليق بالإنسانية، مساحة حرّة و درباً رحباً، ولكن الصبر حِمل والواقع ثقيل الوطء..
ألم يكفِ أننا أمنا ووثقنا وتسلحنا يقينا جازماً؟
ألم يكفِ أنّ القلب يحترق مع كل خيبة والنفس تعتصر مع كل دقيقة عجز؟
اقتربت مني أمّي ذات ليلة، ملجأي متى تخرّ قواي ويشتد ضعفي، وقالت لي:
'إنّ الحياة لم تكن يوماً عادلة وليس كل ما يتمنّاه المرء يلقاه، إنّ الصعاب محاطة بنا من كل حَدب وإن الشعور بالعجز مهين فعلاً ولكنّ الإلحاح دوماً والصبر دائماً واجبان.
إنّ الإنصات لمَواطن الخيبة فينا والتفكير الدائم اليائس، علل تُداوى بالسعي الدائم نحو ما صبونا دائماً أن نكون، بالتفكّر الموجب وتحدي النفس..
قد نيأس حيناً ويتملكنا الإحباط ويغزونا القلق والهوس، لكن الأقدار تظل مُصاغة بحكمة ربّانيّة جليّة غيبيّة، فالعقل قاصر أن يُبصر موطن الرحمة في المحن. صحيح أنّ الظلم غير عابئ لنهايات ولا حدود للبطش والتسلّط، وإننا رغم ذلك تواقين لنصر قريب، نُحاول رسم الآمال وتحدي لوعة الزمن.. قد لا نسيطر على أغلب الأمور وقد يتفانى القدر في امتحان صبرنا ودأبنا ولكننا خُلقنا لنحيا وسنكافح لنحيا كما أردنا، فعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.