حتى تتبع ملتهم .. مراجعة مفاهيم

إصلاح بعض المفاهيم الخطيرة، التي كرسها بشكل ما بعض فقهائنا، لن يتأتى إلا بفهم القرآن كما يجب، وقراءة إنسانية معاصرة، يشترك فيها علماء الأديان مع المختصين في العلوم الإنسانية الأخرى، التي أهمل الفقهاء استحضارها في فهم النص القرآني

عربي بوست
تم النشر: 2016/08/09 الساعة 07:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/08/09 الساعة 07:04 بتوقيت غرينتش

(وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) [البقرة: 120].
أورد القرآن الكريم، في كثير من الآيات، صفات فريقَي الصراع من المؤمنين ومن عاداهم، عبر التاريخ، فيقارن بين مواقف الحزبين؛ ليبين لنا الأخلاق التي ارتضاها لنا، كما في هذه الآية، التي تبين لنا خُلق فريق من اليهود والنصارى، زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ممن لا يرضون عن النبي، حتى يتبع ملَّتهم، فيستنكر هذا المبدأ منهم، كي يعلمنا أن نرضى عن الآخر أياً كان دينه وعرقه؛ إذ ليس من منطق القرآن الكريم أن ينهى الآخر عن خُلق، ثم يسمح له بمثله، كما في قول شعيب عليه السلام: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) [هو: 88]، وفي الآية إشارة لافتة، عند وصف القرآن خلق هذا الفريق عبَّر عنه بـ"أهواءهم"، لا بـ "ملَّتهم"؛ لأنه شتَّان بين ملتهم التي يدعون الدعوة إليها، والتي فيها الكثير من هدى الله، كما في آيات كثيرة من القرآن، وبين أهوائهم، التي من ضمنها كما أشرنا، أن لا يرضوا عن الآخر، حتى يتبع ملتهم، وقد أشار إلى مثل هذا العلامة المقاصدي، المالكي، الطاهر بن عاشور، رحمه الله في تفسيره (التحرير والتنوير، ج4/ص66])، فقال في معنى قوله تعالى: (ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم): (.. استئناف ابتدائي، قصد منه المقابلة بين خلق الفريقين، فالمؤمنون يحبون أهل الكتاب، وأهل الكتاب يبغضونهم، وكل إناء بما فيه يرشح، والشأن أن المحبة تجلب المحبة إلا إذا اختلفت المقاصد والأخلاق..) ا.هـ.
من الملاحظ في أخلاق مجتمعاتنا اليوم أنه ما إن تحدث أحدهم، حتى يسألك: ما هو دينك وطائفتك؟، وتعودنا هذا السؤال للأسف، حتى يرضى الآخر عنك وعن ملتك! وقد يكون هذا السؤال جيداً لو كان بقصد التعارف فقط، لا بقصد اتخاذ موقف، أو محاولة الاستقطاب؛ وقد علمنا الكتاب المبين أن إنسانية الآخر كافية لتحدد أسلوب التعامل معه؛ ونجد ذلك بجلاء في نص قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13]، وهي من أواخر السور في ترتيب النزول، أي أن أساس التعامل بين الأمم والشعوب هو التعارف، وقوله "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، معناه أن لا أحد له الحق في تحديد الأفضل سوى الله، وهي من الأمور التي اختص بها سبحانه، كما في آية (هو أعلم بمن اتقى) [النجم: 32]، وقوله سبحانه: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [الأنعام: 117]، وتبين من خلال مسيرة البشرية أن الصالح والطالح، والفاسد والمنافق، والكاذب والخائن والأمين، كلها صفات مشتركة في بني الإنسان، لا يغيرها انتماؤك لأديان ولا لأعراق، إنما تغيرها المعرفة والصدق، والانفتاح والتسامح، وهذا ما نلاحظه جلياً في القرآن، حين يقول ربنا إنه "لا يحب المعتدين.. لا يحب الظالمين.. لا يحب المفسدين.. لا يحب المسرفين.. لا يحب الخائنين.. لا يحب المستكبرين.. لا يحب من كان مختالاً فخوراً.. لا يحب من كان خواناً أثيما"… آيات شاملة للمسلمين وغيرهم، فالله لا يحب من كانت هذه صفاته، أو إحداها، ومن فطرة الإنسان أن يكره، وينفر، ممّن هذه حاله، أياً كان دينه، أو بلده وعرقه، أو منهجه.
ومما لا أشك فيه أن إصلاح بعض المفاهيم الخطيرة، التي كرسها بشكل ما بعض فقهائنا، لن يتأتى إلا بفهم القرآن كما يجب، وقراءة إنسانية معاصرة، يشترك فيها علماء الأديان مع المختصين في العلوم الإنسانية الأخرى، التي أهمل الفقهاء استحضارها في فهم النص القرآني، إذ إن "عوامل التعرية الفكرية"، التي أثرت في المسيحية واليهودية وغيرها قبلنا، هي نفسها التي تؤثر في الإسلام اليوم، وذلك ما سيجعل كل هذا الركام مما وضع على ديننا، فأقفل المفاهيم الراقية التي تملأ القرآن الكريم، تنجلي بأنوار المعرفة المتوازنة، وإذا كنا نؤمن أن القرآن كتاب خالد، مصلح لكل زمان ومكان، فيعني أن مفاهيمه يجب أن تجدد حسب تغير المجتمعات.
ومما يجب مراجعته أيضاً مفهوم "الكافر" و"المؤمن"، فنجد أن الكافر قرآنياً هو الشخص الذي وصف في آياته بالصفات السلبية المتفق على إدانة كلياتها عالمياً كالظلم، والعدوان، والكبر، والجحود، والكذب، والقسوة، والنفاق، وأن المؤمن هو الشخص الذي وصف بالصفات الإيجابية المتفق على كلياتها عالمياً كالعدل، والرحمة، والخير، والصدق، والإحسان… ونقصان إيمان الفرد والجماعة وزيادته بقدر اتصافهم بهذه السلبيات أو الإيجابيات.
أما الفهم الكلاسيكي للمصطلح بأن كل من ليس مسلماً فهو كافر، وإن كان أطيب الناس وأحسنهم لخلق الله، وأبحثهم عن الحقيقة، فهذا فيه من الظلم للعقل البشري الشيء الكثير، كذلك القول إن المؤمن هو من ورث الإسلام، بأخذه عرض هذا الأدنى وقوله سيغفر لنا!، وإن كان أظلم الناس، فقط لكونه شهد الشهادتين، دون أن يتصف بصفات المؤمنين القرآنية، فهذا ظلم للإيمان الذي زكى الله أهله؛ وقد روى البخاري في صحيحه أن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – قال : "إن رجلاً كان فيمن كان قبلكم أتاه الملك ليقبض روحه، فقيل له: هل عملت من خير؟. قال: ما أعلم. قيل له: انظر. قال: ما أعلم شيئاً غير أني كنت أبايع الناس في الدنيا وأجازيهم، فأنظر الموسر، وأتجاوز عن المعسر. فأدخله الله الجنة"، ا.هـ، هنا ربنا عز وجل لم يهمّه أن يكون هذا الرجل مسلماً أو لا، حسب التعريف الفقهي الضيق، إنما أهمه إنسانيته، وهو ما يحفز لإعادة تجديد الخطاب المفاهيمي الذي وضعه فقهاء، قعدوا قواعد جعلوا بها الجنة خاصة بالمسلم، حتى يكرسوا عنصرية دينية، استنكرها القرآن في غير ما آية، كما في قوله سبحانه في سورة النساء (123) : (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا)، ومثل هذه القصة نجدها أيضاً في الحديث المتفق عليه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (بينما رجل يمشي بطريق، اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماء، ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له، قالوا: يا رسول الله وإن لنا في هذه البهائم لأجراً؟ فقال: في كل كبد رطبة أجر) رواه البخاري ومسلم.
وأعتقد أن المراجعة التي أدعو إليها ليس خاصة بمفاهيم عقدية فقط، بل تعدته لمسائل عرفية، تناولها القرآن الكريم، والتي كانت تخص مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم، دون غيره، وتغيرت تطبيقاتها أو اندثرت في المجتمعات المعاصرة، كقضية الظهار مثلاً، في أوائل سورة المجادلة، فالقرآن إنما تناول حكماً مجتمعياً كان القول فيه للزوجة "أنت عليَّ كظهر أمي" طلاقاً، فأنكر القرآن هذا القول وعدل طريقة الطلاق، ولا يمكن القياس على دعوة القرآن للقطيعة مع هذه الظاهرة التي تخص مجتمع الجزيرة العربية، حكم من يقول لزوجته اليوم أنت كأمي أو غير ذلك؛ لأن العرف في المجتمعات الأخرى، وحتى عند العرب اليوم، لا يحكم على هذا القول بنفس ما كان يحكم عليه حال نزول تلكم الآيات، والغريب أن يصنف الفقهاء أبواباً في حكم الظهار، رغم أنه عرف اندثر تماماً، بل زادوا ألفاظاً ما كانت في الجاهلية، جعلوها في حكم الظهار، من قبيل أن يقول أحدهم لزوجته: "أنت كأختي" أو "أنت كجدتي".. الخ، بالضد تماماً على مقصود القرآن الذي أراد القطع مع الظهارة، فقاموا هم بتوسيع دائرتها، وهذا خطأ شنيع درج عليه الفقهاء في تصانيفهم للأسف.

ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد