" من قال لك إنَّ العلم بالضروري يربِّي الأيديولوجيا ؟ ثم مَن قال لك إنَّ العلم بالضروري لابدَّ وأنْ يردعك عن الانحياز للظلم والوقوع في شركه ؟! "
الصورةُ غيرُ الكاملة
العالِمُ شبقٌ جدًّا لكل مايستفزُّ معرفته , وأسيرٌ لكل ما يمطر أرضه ببقعة ماء .. ربما تتلاشى عنده الحسابات التقليدية والبروتوكول الإنساني شريطة أنْ يمنحه ذلك رضًا في نفسه ورحابةً في علمه .. ربما يمنحه هذا الهوس كثيرًا من الغرابة ومزيدًا من الانبهار عند الناس .. ولأنَّنا لم نوعد بعدلٍ مطلقٍ على الأرض كان لابد للصورة ألَّا تكون كاملةً .. كان لابد أن يظهر قليلٌ من العلماء وسط هذا الكثير من الناس ، وكان لابد أن يظهر القليلٌ من الإنساني وسط هذا الكثير من العلمي . على الأرض سنجدُ دائمًا اللحن الأروع ناقص الوتر ! .. داعيةٌ يسقطه هوى نفسه ، وشاعرٌ عبَّأ رؤوسنا بالأخلاق والأشعار يسقطه كتفُ فتاةٍ أو سيجارةُ دخانٍ أو كأس نبيذ .. على الأرض سنجدُ العالم الذي ذرَّ علمه في العيون إلَّا من بقعة صغيرة في أعين الناس استطاعت أنْ تراه صغيرًا ساقطًا في أوحال السياسة أو عالم البيزنس ! .. هي الدنيا لا تعطي كمالًا مطلقًا ولا تسمح لشرٍ مطلقٍ أنْ ينتصر! .
العلمُ لا يمنحُ إنسانيَّةً
ربما استفزَّك – عزيزي القارئ – ما كتبتُه في مطلع هذه المقالة القصيرة عن العلم الذي لا يوجِّه أيديولوجيا أو يقوي أخلاقًا تمنعك من الانحياز للظلم او القتل أو السلطة أو المصالح إلخ .. صحيحٌ أنَّ العلم رحمٌ بين أهله ، وأنَّه من المفترض أن يمنحنا قيمًا وأخلاقًا ، لكنني أؤمن أنَ نُبوَّة قد ابتدأت بآدمَ واختتمت بمحمدٍ " صلى الله عليه وسلم " قد انتهت! .
يسقط الناس عادةً في فخ الخلط بين العالم والإنسان والشاعر والإنسان والكاتب والإنسان إلى آخره .. إلى آخره .. إلى آخره ! . نعم ليس بالضرورة أن يتطابق العلمي مع الإنساني ، وليس شرطًا أنْ ينجح أحمد زويل الإنسان كما نجح أحمد زويل العالم الفذُّ .. وليس شرطًا أنْ نثق في إنسانية عالمٍ لمجرد أنَّه اخترع واكتشف وأذهل .. ياسادةُ إنما يُنجِحُ العلماءَ بين الناس علمُهم ، لكنَ ما يبقيهم في القلوب إنسانيتُهم ومواقفهم غير المتلونة وغيرالمنتفعة .
أحمد زويل مثالًا
ليس مطلوبًا مني هنا وأنا ابن التاسعة والعشرين – أكملتُها منذُ يومين – أن أقف وأنظِّر لأثبت أنَّ زويل عالمًا قد باع ضميره وعقله لأرضٍ أخرى وشعبٍ آخر ؛ لأنَّ العلم ببساطةٍ لا يُثبَتُ بجنسية من ينتفعُ به أو يُنفَى بجنسية من يرفضُه .. العلمُ ابتكارٌ وعقلٌ وذوبان في ديمومة العمل بغض النظر قطعيًّا عن طبقية هذا العلم أو استفادة فصيلٍ دون آخر به ، كذلك الأخلاقُ لا يمكن أن تذر الرماد في العيون بوحدات زمن لا تتعدى الجزء من مليون مليار جزء من الثانية .. الضحايا لا تُنسى بالتقادم ولا بالنياشين ولا بالمكانة العلمية .. والتاريخُ لا ينسى من صفَّق لظالمٍ أو ناصره أو تغابى في حضرته إلى آخره إلى آخره إلى آخره .
كان الرهان على الأخلاق أقوى وأنجح ؛ لأنَّ الناس تنبهرُ بما تراه مفيدًا لها اليوم وغدًا وربما بعد غد ، بينما الأخلاق والمواقف تبني أجيالًا قادمة كثيرة كثيرة .. إذن لا تحرمونا من أن نرثى عالمًا كبيرًا كأحمد زويل ؛ ربما لأنَّ عالما فذًّا كزويل يلمع بريقه كلما استمرت الحاجةُ لعلمه ، بينما سيكونُ في موقفٍ صعبٍ حينما يُحاسب التاريخ الناس على مواقفهم – مهما حسنت نيَّاتُهم – وعلاماتهم التي تركوها يوم أنْ جبُن الجميع .. لا تستكثروا عليه علمًا كان قد أبدع فيه ، واتركوا البقية لأيامٍ قادمةٍ لن ترحم ! .