منذ استقلال الجزائر سنة 1962 والدستور الجزائري يُقّر بحتمية أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية
والأولى في البلاد، ثم تأتي الفرنسية بالمرتبة الثانية، بحكم أن الجزائر كانت مستعمرة فرنسية لأكثر من قرن (130 سنة). وفي تلك الحقبة من الزمن -فترة الاستعمار- اعتُبرت الفرنسية هي اللغة الأولى (للجزائر الفرنسية)، وهو الفِكر الذي عَمَل الفرنسيون على تَجذيره في عقل الجزائرين الذين حُرموا من حق التعليم آنذاك لطمس هويتهم العربية.
فالبرغم من الجهود التي بذلتها الحكومة الجزائرية باتخاذ إجراءات استعجالية، أهمها كان "استيراد" -لو صحّ التعبير- أساتذة للغة العربية من المشرق العربي، بقي الإشكال قائماً بذاته، في صعوبة دمج اللغة العربية في المحاداثات الاجتماعية لتكون العربية لغة التواصل اليومية للجزائريين، ولا أقصد هنا الفصحى بل أتكلم عن العربية مع اختلاف اللهجات بين الدول العربية، لكن الملاحظ والملفت أكثر هو استعمال الجزائريين لمصطلحات فرنسية توارثوها عبر الأزمنة، والتي لو سألتهم عن مرادفاتها بالعربية لا تجد للسؤال إجابة، مثل كلمة (Ordenace) والتي تعني الوصفة الطبية للدواء.. إلخ.
لكن بالتعمق في أيديولوجيات الدولة الجزائرية فالتعامل مع هذه الظاهرة وهو الانتقال من نمط لغوي فرنسي إلى لغوي عربي، نجد تناقضاً في سياسة تطبيق منطق العربية كلغة أولى، لأنك لو زرت الجزائر تجد أن سلك الطب يستعمل الفرنسية كلغة للتدريس أو التعامل فالمستشفيات وحتى في كتابة التقارير الطبية أو وصفات الدواء، في المقابل تجد أن اللغة العربية في القضاء هي اللغة الرسمية للمراسلات والمرافعات والشكاوى. وبين هذا وذاك يجد الجزائري نفسه في صراع لغوي خلفته تراكمات تاريخية وسياسية وفكرية.
وإذا استشهدنا بالتاريخ نجد أن المصلحين في الجزائر أمثال العلامة عبد الحميد بن باديس والأمير عبد القادر وغيرهما، كان لهم من الجهود الشيء الذي يُقدَّر لمحو الأمية أولاً، وترسيخ العربية كلغة شعب انتماؤه للعروبة أمر شكك فيه حتى أبناء الشعب نفسه.
لكن في موقف حدث معي جعل موازين التفكير في ذهني تتزاحم وتتناقض حين كنت في أحد حفلات القيصر كاظم الساهر، والتي أحياها بمدينة وهران غرب الجزائر بمسرح الهواء الطلق، أين كان عدد الحاضرين من الجمهور تقريباً وحسب تقديري ألفين شخص، تلك الجماهير الغفيرة وأنا أراقبها طوال الحفل، كانت تردد مع القيصر كاظم أغانيه المبنية على قصائد نزار قباني، ردد الجمهور الأغاني بكلماتها واستغربت لشعب يهوى الفن الأجنبيأان يتقن حفظ شعر عربي حديث لبعض القصائد التي عن نفسي لا اعرفها كلها، الموقف الطريف كان أحد الجالسين على يساري من الأشقاء العرب وقد علّق بصوت ليس بخافتٍ تسللت كلماته في مسمعي قائلاً "كيف لشعب أن يردد أصعب قصائد نزار قباني وعندما تكلمه لا تكون إجابته إلا جملاً قليلة في كلماتها العربية كثيرة في فرنسيتها؟!".
ارتسمت الابتسامة على وجهي ربّما كانت تعبر عن إحساس بالفرحة عن فكرة لطالما اعتقدت بها والتي بنيتها على كلمات العلامة ابن بأديس قائلاً: "شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب. من قال حاد عن أصله أو قال مات فقد كذب؟".
فهل أصبح لهذه الأبيات معنى بعد كل الجهوية والنزاعية والانتمائية التي يتخبط فيها الجزائريون منذ عقود؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.