عقب فشل محاولة الانقلاب العسكري في تركيا 15 يوليو/تموز الماضي، أُشيع أنه تم اعتقال 6 آلاف شخص، ثم بدأ هذا العدد في الزيادة الجنونية حتى وصل أواخر الأسبوع الأول بعد الانقلاب إلى 12 ألفاً، ويوم السبت الماضي أعلن وزير الداخلية التركي أن هذا العدد وصل لنحو 18 ألف شخص، ثم تحدثت صحف ووكالات أنباء عالمية وغيرها عن تسريح نحو 1600 عسكري، بينهم 150 جنرالاً وأميرالاً، وعن صدور مراسيم تقضي بإغلاق 45 صحيفة، و16 شبكة تلفزيونية، و3 وكالات أنباء، و23 إذاعة، و15 مجلة، و29 داراً للنشر، وتوقيف 89 إعلامياً وجهت لهم تهمة انتمائهم إلى منظمة "فتح الله غولن"، الذي يعتقد أنه ومنظمته كانا وراء عملية الانقلاب الفاشلة، وتحدثت الأخبار يوم الجمعة الماضي عن نحو 8 آلاف شخص كانوا قد وضعوا تحت الحبس الاحتياطي، بينما أطلق سراح ثلاثة آلاف آخرين.
تلك الأرقام غذّت بشكل كبير تلك الشائعة التي ظهرت بشكل ساخر على مواقع التواصل الاجتماعي حتى المستوى العالمي، التي تقول بأن الشعب التركي بات رهن الاعتقال، بينما ظلت الجهات الرسمية التركية تطلق تلك الإيضاحات في أحايين ليست بكثيرة حول ذلك كرد على موجة الاستنكار المحمومة ،التي يشجعها دعاة وحماة العلمانية حول العالم، دون أن تظهر الحكومة اكتراثها الشديد لذلك، وإليكم اﻹيضاحات:
في 31/7 المنصرم أعلن الرئيس التركي أردوغان أن عدد الموقوفين لتاريخه بلغ 18 ألفاً و619 موقوفاً، وهؤلاء هم من الموقوفين في أقسام الشرطة احتياطياً، أما من وجّهت لهم تهم قوية وأدخلوا السجون فقد بلغ عددهم 10 آلاف و137 شخصاً، وما زالت التحقيقات جارية لتحديد مصير الجميع.
عندما ذكرت وكالات اﻷنباء رقم 45 صحيفة تم إغلاقها، فإنها لم تذكر أن هذا العدد من ضمن 1680 صحيفة محلية وقومية موجدة داخل تركيا، وأن أغلب الصحف التي تم إغلاقها هي صحف إقليمية ومحلية، أي أنها لم تكن توزع على كامل الأرض التركية، وأن الصحف الكبيرة التي تم إغلاقها هي سبع صحف فقط ضمن هذا الرقم، وأن هذه الصحف أغلقت؛ ﻷنها كانت وراء عدة تسريبات مغلوطة كانت تمهد لعملية الانقلاب، ولم يُلتفت إلى كونها معارضة أم لا عند إغلاقها، غير أن جميعها كانت تابعة لمنظمة فتح الله غولن، وهذا عينه ما انطبق أيضاً على الإعلام الإذاعي والتلفزيوني.
لم تُجرِ وكالات اﻷنباء العالمية والعربية التي انتقدت إجراءات الحكومة التركية المقارنات التي تركز على ما بات تقليداً معروفاً عقب العمليات الانقلابية الفاشلة وغير الفاشلة، ألا وهو التوسع في نطاق التحقيقات، فمثلاً أغفلت تلك الوكالات أنه عقب انقلاب 1980 في تركيا تم اعتقال 680 ألف شخص، وصدرت أحكام باﻹعدام على 520 آخرين، ونفذ الحكم فعلياً بحق 50 منهم، كما تم فصل 30 ألف شخص من وظائفهم، وتم نفي 30 ألفاً آخرين خارج البلاد، وتم إسقاط الجنسية عن 14 ألفاً، أما انقلاب عام 1960 الذي أدى إلى إعدام الرئيس المنتخب "عدنان مندريس"، فعقبه تم إعفاء 235 جنرالاً من الجيش، وتم تسريح ثلاثة آلاف ضابط من وظائفهم، وتم فصل 500 قاضٍ، وفصل 1400 أستاذ جامعي.
إذاً ما فعله أردوغان فيما لو استثنينا الجماهير الساحقة من الشعب التركي، التي وقفت بوجه الانقلاب العسكري، فإنه يندرج تحت بند "التحقق من إفشال محاولة الانقلاب والتخلص من آثارها الضارة على اﻷمة والديمقراطية"، والتأكيد على ذلك بشدة، ولولا هذا الفعل، فإن التفاؤل بفشل هذه المحاولة الانقلابية قد يكون غاية في السذاجة؛ إذ سيكون ما حصل هو عبارة عن تمهيد لما هو آت من انقلاب على الديمقراطية، بحيث يشبه في دوره طعماً من نوعٍ ما، فالفرح بدحر انقلاب كان سيأتي بحكم العسكر الذي ترك خبرة كئيبة وسوداء قاتمة لدى الشعب التركي، لا يكفي، بل كان واجباً أيضاً الحذر من تداعيات فشل المحاولة التي قد تتخذ ما حدث ذريعة لتبرير التراجع عن الديمقراطية عند أولئك الذين راهنوا على حكم العسكر، فيما لو نجح الانقلاب عقب التهاون لتداعياته، لقد أدرك الشعب التركي على اختلاف أطيافه ذلك مبكراً مدفوعاً بمقارنات استوطنت عقله الباطن بين الديمقراطية الحقيقية التي ظهرت نتائجها على أرض الواقع من نمو اقتصادي وتنمية ورخاء، وبين أيام حكم العسكر الكئيبة.
لقد ظهر ذلك واضحاً من خلال أن اﻹجراءات الاحترازية التي اتخذتها الحكومة في أنقرة أيدتها كل اﻷحزاب العلمانية التركية بلا استثناء، وعلى رأسها حزب الشعب الجمهوري، والحزب القومي، وحزب الشعوب الديمقراطي، مع تأكيدهم جميعاً الحفاظ على المسار الديمقراطي للبلاد.
وبما أن إجراءات حكومة أنقرة الاحترازية عقب الانقلاب تلقى التأييد الشعبي والمدني الواسع، ظلت تتسم بالشفافية، بحيث كانت تلك اﻷرقام التي ذكرت معروفة ومعلنة وتخضع للتحديث بشكل يومي، على عكس ما يحصل عادة في ظروف مماثلة، سيما في بلداننا العربية، بحيث تبقى الأمور طي الكتمان والتكتم، ومن الأسرار الخطيرة كونها غير شرعية البتة، وليس مرحباً بها بالمرة على كل المستويات الشعبية والمدنية، بحيث يظل يشار لها من قِبل وكالات الأنباء بمفاهيم من نحو الاختفاء القسري، والتصفية الجسدية، وما إلى ذلك.
تركيا اليوم بات مدى الرؤية لديها أكثر وضوحاً من ذي قبل داخلياً وخارجياً، وخصوصاً عندما يتم الربط بين اﻷبلسة والشيطنة التي تعرض لها شخص أردوغان خلال الثلاث سنوات الأخيرة على مستوى الصحافة العالمية والعربية، والتي بات يُعتقد أنه تقليد يتبعه المجتمع الدولي قبيل الإطاحة برئيس ما أو نظام ما، وعندما يبدأ المجتمع الدولي بتهيئة كل الظروف لتغذية العداء لهذا الرئيس ونظامه، مستنداً في ذلك على تغذية عداءات الكيد والكره والخصومة الشخصية، التي هي بعيدة كل البعد عن السياسة، فأعداء وكارهو أردوغان لا يضيرهم تدمير تركيا لتدميره هو شخصياً قبل أن يقولوا هذا نتاج حكم أردوغان، كما حصل لصدام حسين مثلاً، فكارهو صدام حسين ما زالوا يلقون باللوم عليه في تدمير العراق حتى بعد اعتراف توني بلير رئيس وزراء بريطانيا السابق، ووكالة الاستخبارات اﻷميركية بأن الحرب على صدام والعراق كان خطأً جسيماً وغير مبرر، فكارهو أردوغان وتركيا قوية ناجحة يقودها أردوغان باتوا من اﻹحباط الشديد بمكان والكراهية العمياء، وهم لا يطيقون استيعاب كيف أن شعباً هبَّ عن بكرة أبيه للدفاع عن رئيس ونظامه، بينما أن المعروف والتقليد هو أن العسكر ومؤسستهم هم من يهبون للدفاع عن رئيس ونظامه!
ذاك الشعب الذي أنعشه النظام، وحقق أحلامه، وأعاد له مكتسباته التي نهبها العسكر، هب بشكل عفوي وغير منظم للدفاع عن الديمقراطية التي ذاق طعمها أخيراً، مأزوراً بوسائل اﻹعلام والأحزاب التي وقفت بوجه الانقلاب بكل صلابة، فتلك الجماهير من الطبقة الفقيرة والوسطى، والتي تضاعفت دخولها ثلاث وأربع مرات خلال العشر سنوات الأخيرة، هي فقط من تعرف حكم العسكر كيف يكون فيما لو نجح في انقلابه؛ لذلك حركها الدفاع عن مصالحها ومستقبلها ومستقبل أبنائها من اﻷجيال القادمة، حركها الخوف على مستقبل تركيا قبل كل شيء، هذا ما دفعهم للخروج طوال الليل، هذا ما دفعهم لافتراش اﻷرض بأجسادهم أمام الدبابات، هذا ما دفعهم لعدم الخوف حين قُتل زملاؤهم أمام أعينهم برصاص الانقلابيين، هذا ما دفعهم لسد الطرق بسياراتهم الخاصة أمام زحف آليات الانقلابيين، هذا ما دفعهم لسد مدرج الطائرات بأنقرة بسياراتهم الخاصة لمنع الانقلابيين من استخدامه مجدداً، بعدما قصفوا مبنى البرلمان ومقر القوات الخاصة، فرغم وقوف الشرطة والقوات الخاصة بوجه الانقلاب، فإنه ما كان لينجح اﻷمر لولا غضب الشعب والجماهير.
تركيا اليوم باتت تدرك تماماً أن الانقلاب الذي كان واسع الانتشار بحيث طال الكثير من مفاصل الدولة العسكرية والمدنية، والذي بدا واضحاً أنه كان على درجة كبيرة من التنسيق واﻹعداد الدقيق والضخامة والتكتم حتى بدأت الدبابات بالنزول إلى الشوارع، ما كان له أن يكون من تخطيط منظمة فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة اﻷميركية، وأن هذه العملية أكبر منه ومن منظمته ومن جماعة "خدمة" التي يقودها بكثير، رغم الشكوك التي تدور حول ضلوعه ومنظمته في الانقلاب، فدولة كتركيا لها ذاك الثقل الكبير على المستوى الدولي، كان واجباً على الانقلابيين التنسيق الخارجي قبل تنفيذ عمليتهم لحفظ المصالح وقنوات الاتصال.
لم يخفَ على أحد مثلاً ذاك التهليل اﻹسرائيلي على استحياء لصالح الانقلاب عقب اﻹعلان عنه، وذاك الترحيب اﻷولي من قِبل واشنطن في الدقائق اﻷولى ﻹعلانه، وتلك اﻹشارات الأولى من مسؤولين أتراك عن تشجيع أميركي للانقلابيين، كما أنه طوال ليلة الانقلاب لم نشهد أي شجب معلن للانقلاب من أي دولة أوروبية أو حتى عربية، ونحن نعلم تمام العلم أن العالم لا يمكن أن يجتمع إلا على الضلال، وتركيا اليوم باتت مدركة لذلك أكثر من أي وقت مضى.
ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.