أتى رأيه مخالفاً لما يعتقدونه ويصرحون به، فما كان منهم إلا أن أمروا بقتله خوفاً من تأثير أفكاره على عامة الشعب وإيقاظ صحوتهم الغافلة وعقلهم المشبع بأكاذيبهم وشعوذاتهم.
عندما حان موعد تنفيذ المهمة التفت إلى قاتله وسأله: أأمسى دمي وسيلة تفرغ من خلالها غضبك المحتقن وتنال من حقدك على سطوهم وجبروتهم؟ أبقتلي تثبت أنك ما زلت حياً تبعث الرعب في نفس فريستك؟ قوتك قمعت بوجود أخرى ذات نفوذ أقوى، والآن أرى تمردها على قوتي وثورتها ضد الكبت الذي تعرضت له.
أبهذه الطريقة تثبت وجودك؟ سيَرونك كما تجري رياحهم فما عاد الشراع قادراً على إدارة سفينتك وإذ بالمياه تغمر سطحها شيئاً فشيئاً وأنت تدور حول نفسك لا تعي ما يجب فعله؛ أتستسلم أمام تلك العواصف وتفنى بسببهم، أم تصارع تياراتهم؟ فأراك تترك تلك السفينة عندها يرتسم أمامك مساران: نجاة بعد مشقة، أو موت تصنف عن طريقه في خانة الشهداء.
"اصمت"، قاطعه صوته المتردد بين الغضب والاستياء وضربه بالسياط حتى انهمر الدم على جسده، فالمتهم دون معرفته المسبقة به استطاع إدراك حقيقة يعيها القاتل، لكنه يهرب منها في ظلمات الدهاليز ويخلق لها المبررات والأعذار ليتجنب الصراع الباطني بين الغريزة والضمير.
"أصمت"، يعلو صوته ولكن هذه المرة ليسكت صوتاً باطنياً بدأ يتردد صداه على مسامعه.
أنت وأمثالك لستم إلا عملاء لدى دول تدعي الحرية وفي جوهرها تهدف إلى تقسيمنا وتشريدنا، حقن الفتن والنزاعات، ليس من مصلحتها أن ترى شعباً متكاتفاً مدافعاً عن قضية واحدة بل تريد جعلهم أفرقاء، كل منهم يناصر قضية تناقض بمبادئها قضية أخرى، وكل منهم يحاول إثبات صحة نظرياته وتحليلاته، وقبل أن يكمل توقف لبرهة يستجمع أفكاره ويستعيد ما صدر عنه من موقف، حينها أيقن أنه يصف حالة زعيمه وأمثاله الذين تديرهم مصادر أقوى وتتحكم بهم كلعبة "الماريونيت".
نظر إليه بحزن وأكمل: "نحن لسنا إلا أدوات لدى هؤلاء الكبار، ننفذ ولا نعترض، ما نحن إلا عبيد مأمورون، وإذا جاء سيدي الآن وأنت ما زلت على قيد الحياة فلسوف يقضي علينا نحن الاثنين. أنت لا تعلم نوبات جنونه التي تقوده إلى التعذيب بشتى أنواع الطرق.. حياتنا مرهونة لكيفه".
"أنا لا آبه لأحد مهما علا شأنه"، أردف المتهم، ولا أخشى الموت، فالموت ما هو إلا واحة المظلومين يعبرون منها إلى دنيا الحق، نادِ لكبيركم، أريد أن أكلمه قبل أن يعرج بروحي إلى أعلى، ليس لأستعطفه بل لأريه أنني الحلقة الأقوى، وأن هذه الزنزانة تعكس ضعفه وقلة حيلته، أريد أن يعي أنه لا يستطيع إسكات الحق؛ لأنه باقٍ أما هو فانٍ، الحق باقٍ بوجود الملك الحق، الحق باقٍ كلما أنذرت الأرض سكانها بانبثاق يوم جديد يتوج بولادة أناس أصحاب حق لا يخشون حد السيف ولا تثنيهم نعرة السكين عن قول الكلمة الحقة حتى لو كانت مسافة شعرة تبعدهم عن الموت. سكت الكلام وبدا المشهد كأن جدران الزنزانة على استعداد لهدم نفسها بنفسها، وإطلاق سراح من أفصح عن أوجاع المظلومين التي حفرتها صرخاتهم على جدرانها.
سمع وقع خطاه السريع والمنتظم يقترب، يدفع الباب الحديدي بقوة عله يبعث الذعر في نفوس الموجودين فيها، ويدخل مختالاً بشبحه الذي حجب الضوء عن المتهم، استفزه أن يراه حياً، فهذا يعني أن الخطر لم يزل عنه، رفع المتهم رأسه وقد رسمت على وجهه ضحكة تحدٍّ وانتصار، دفعت بالكبير وبحركات هائجة أن يلتقط مسدسه ويطلق النار عليه، وبعد ثوانٍ قليلة أدرك وجود القاتل الذي كان تحت تأثير كلام المتهم، فالذهول الذي بدا على وجهه، حذر سيده أنه هو الآخر أمسى خطراً عليه إذا ما بقي على قيد الحياة؛ لذلك ضغط على الزناد وأعلن نهاية حياته، خرج من الزنزانة بخطى منتظمة وواثقة، أما المتهم فاتسعت البسمة التي كانت قد لاحت على وجهه؛ لأنه أدرك أن القاتل قد ترك سفينته وأصبح في عداد الشهداء.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.