فاطمة

كانت تتحدث وكنتُ أنظرُ إليها وأبتسم.. وجدتُ فيها الكثير مني.. وجدت في أحلامها الصغيرات شيئاً من أحلامي! ذكرتني بنفسي في زمن مضى، تلك الصبية التي كُنتها يوماً..

عربي بوست
تم النشر: 2016/07/04 الساعة 07:05 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/07/04 الساعة 07:05 بتوقيت غرينتش

على متن القطار القادم من الرباط المدينة، المتوجه إلى الدار الميناء التقينا، كانت أصغر مني سناً.. جميلة كزهرة لوز لامسها المطر، فأينعت أوراقها في نيسان، مفعمة بالحب والأمل والحياة، باسمة كفراشة تحلق برقة بين زهور الجاردينيا البيضاء، واثقة من خطوها، متوثبة كحلم بالمستقبل! سألتني إن كان المقعد جانبي شاغراً، فأشرت لها بالجلوس.. أخرجت من حقيبتها كيساً بلاستيكياً به يبتزا، أعطتني قطعة منها..

أخبرتني أنها خافت أن يفوتها القطار؛ لذا لم تتمكن من تناول وجبة غدائها، شاركتني طعامها، عرفتني بنفسها، وفعلت بدوري، تجاذبنا أطراف الحديث من كل حدب وصوب.. أخبرتني عن أسرتها.. عن قريتها الصغيرة.. عن أحلامها وطموحها.. عن دراستها.. وكم كانت ترغب أن تُكملها داخل أسوار الجامعة، إلا أن رغبتها في الحصول على دبلوم يخولها العمل بعد عامين كي تعيل أسرتها، خاصة أن والدها مريض بالسكري ويحتاج الكثير من الأدوية، حال دون ذلك، وجعلها تتخذ منعطفاً آخر في دراستها.. أخبرتني أيضاً عن شغفها بتعلم اللغات الحية، وعن تفوقها في تعلم اللغة الإنجليزية التي تعشقها كثيراً.. حدثتني أيضاً عن حلمها الأميركي الذي تتمنى تحقيقه.

كانت تتحدث وكنتُ أنظرُ إليها وأبتسم.. وجدتُ فيها الكثير مني.. وجدت في أحلامها الصغيرات شيئاً من أحلامي! ذكرتني بنفسي في زمن مضى، تلك الصبية التي كُنتها يوماً.. تلك التي كانت تخلقُ للصمت صوتاً، ساحبة أكوام الوجل في وسط طالما اعتُبِرَ فيه صوتُ المرأة عورة، وأحلامها -التي لا تناسب نمط تفكيرهم- ضرباً من الإثم، لم يكن والدي الذي كبُرَ وترعرع في كنف أسرة قروية تقليدية محافظة، يعتقد أن ابنته البكر التي قذف بها القدر ذات مساء من مساءات تمّوز.. على يدي قابلة أجنبية من أصول فرنسية -كانت وقتها تعمل تطوعاً في المستوصف الوحيد القريب لقريتنا والذي يبعُد عنها بعشرين كلم- ستصرخ يوماً مشاكسة لتُلفت انتباهه إلى إعادة النظر في بعض الأعراف المغلوطة، والعقليات المجتمعية البالية التي تُجبِرُ المرأة على تقبل قدرها القسري!

لم يكن يظن أن طفلته الوديعة التي طالما تقلبت في حضنه "شقاااوة"، ستخضع يوماً لقانون الطبيعة لتكبر وتحمل في أوردتها أكثر من حياة.. وربما أكثر من العين الواحدة التي يرمق من خلالها أبي الجنون الذي يركب هذا الوجود، فرغم أنه علّمني أن الحياة مغامرة وكفاح من أجل الكرامة، فإنه نسي ذات سهو أن خوض هذه المغامرة وهذا الكفاح يستلزم منا شجاعة وجرأة؛ لأن الحياة في نهاية المطاف كما الحب.. لا تُمْنَحُ للجبناء..

لطالما أخبرتني أمي أني أرى العالم من زاوية مختلفة، أو على الأقل مختلفة عن زاوية نظر أبي، أجل، فهي لا تعلم أنّ لي تصوراً إنجليزياً للحياة! أني بعيدة جدّاً.. بعيدة للحد الذي لا أرى فيه إلا نفسي المنطوية على عالمها الخاص.. المتيقّنة يقيناً راسخاً أن الغد بقدرة الواهب الرزّاق سيكون أبهى كما تصبو إليه الروح وتبتغيه الأعماق.. لم يعتقد أبي الحبيب أن بُنيّته البكر ستكبر وتكبر لاءاتها.. فتقف واجمة أمام كل القوانين الساخطة التي تسلب الحق في تقرير المصير؛ لأنه ببساطة يؤمن بتعلم المرأة.. لكن شريطة أن لا يتعدى طموحها حدود رغبته.. تماماً كما لم يكن يظن الكثيرون أن المرأة المغربية عموماً، والأمازيغية على وجه الخصوص، ستكسر يوماً القمقم ليخرج المارد المستوطن فيها وينطلق محطماً لكافة القيود.

لا أتذكر متى تحديداً بدأ تعلّقي بالكلمة الجميلة والتعبير البليغ، لكني أجزم أنه بدأ قبل تعلمي للكتابة.. أتذكر أني كنتُ أنهال على المجموعات القصصية التي كنت أستعيرها من خزانة معلم الصف الثالث الابتدائي.. فأظلّني مستغرقة في القراءة.. لا يُغْمضُ لي جفن حتي أنتهي من القصص تحت ناظري -من شدة رغبتي في اكتشاف الأحداث التي تدور رحاها في الأسطر-، لم يبدأ اهتمامي وميولي لاقتراف فعل الكتابة مبكراً، أو مذ نعومة الأظافر كما يحلو للعديد أن يقولوا.. لكني أتذكر أني كنت أكتبُ بلغة سليمة، وكم كانت الغبطة تغمرني لمّا أسمع كلمات الإطراء التي يغدق بها معلّم اللغة العربية بفصل السادس الابتدائي، الذي استرعى انتباهه أسلوبي في موضوعات التعبير والإنشاء.. وكذا قدرتي على شرح بعض الكلمات الصعبة التي كانت تستعصي على فهمنا آنذاك..
الكتابة شيء جميل جداً، هي زورق يركبه الكاتب باحثاً بين مَلَكَتَي العقل والقلب، عنه وعن تفاصيل الحياة.. لطالما أحسستُ أن هَرْطَقَاتي التي أدوّنُها، تشبهني إلى حد كبير.. هي مثلي تُحبُّ أن تكون على سَجِيّتِها وتكره أن يصفدها روتين الحياة.. تعشقُ الفوضى.. وتكره أن تخضع للتّرتيب والنقطة والفَصْل.. لطالما أحببت البوح على ورق مكفّن بالبياض، حدّ اللاشيء؛ لأكتب عن كل شيء، لأكتب عن الحياة بمتاهاتها المتنائية، عن خيباتها وانتصاراتها، عن قسوتها، طغيانها، جبروتها، وجمالها أيضاً؛ لأكتب بقلم أنثى عن امرأة مُكتملة بلا انتصاف، عن وطن زاهر كالذي تحلم به أختي، عمّن لا صوت له، وعن كل الذين قَسَتْ عليهم الحياة وتركتهم حُفاة إلا من كرامة وكبرياء..

وصلنا محطة الدار البيضاء الميناء.. ودّعتني بابتسامة عذبة تسلب الكيان.. تمنيتُ لها التوفيق والسّداد.. وودعتها ببسمة لم تَسْتفِق بعد من شرود العقل والروح.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد