فصل آخر من فصول مأساة هجمات إسطنبول التي استهدفت مطار أتاتورك الدولي، الثلاثاء 28 يونيو/حزيران، والتي خلّفت عشرات القتلى، من بينهم الطبيب والعقيد في الجيش التونسي فتحي بيوض، هذا الرجل الذي خلّف رحيله صدمة بين أقاربه وزملائه وحزناً في الشارع التونسي.
فالقدر لم يمهل هذا الأب المكلوم يوماً واحداً للقاء ابنه الذي أنقذه من "داعش" وأقنعه بالانسحاب من هذا التنظيم وتسليم نفسه للسلطات التركية، لكنه مات قبل أن يتحقق حلم العائلة بلمّ الشمل مرة أخرى بعد الفراق.
محمد – اسم مستعار – وهو أحد أقارب عائلة بيوض الذين ينحدرون من مدينة قصور الساف من محافظة المهدية بالوسط الشرقي لتونس تحفظ على ذكر اسمه بالكامل لدواعٍ أمنية وعائلية، لكنه تحدث مع "عربي بوست" عن تفاصيل مثيرة لحياة هذه العائلة وعلاقة الأب فتحي بيوض بنجله الوحيد أنور التي تجاوز العلاقة الدموية إلى حدود الصداقة، وهو ما عمّق جراح هذا الرجل قبل أشهر من وفاته في رحلة البحث عن ابنه.
من الطب إلى الطيران!
محمد قال إن علاقته بابن الطبيب الراحل كانت قوية ومتينة، وقد عاش فترة ما في منزلهم وكان أنور ابن الـ27 ربيعاً كبقية شباب جيله شاباً حيوياً طموحاً ومحباً للسفر، ولم تظهر عليه أي علامات تشدد، وكان يمارس واجباته الدينية بشكل عادي، وقد سافر سنة 2008 إلى موريتانيا لمزاولة الطب لكنه قرر بعد استكمال سنة واحدة العودة لتونس ليلتحق بمدرسة خاصة لتعليم الطيران.
محمد أكد أن أنور سافر منذ نحو سنة إلى الولايات المتحدة الأميركية في زيارة سياحية، حيث استقر هناك لبضعة أسابيع عند صديق والده، وعبّر بعد تلك الزيارة عن رغبته في الانتقال للعيش في أميركا.
بداية التشدد
في الأثناء – وبحسب ذات المصدر – تعرّف هذا الشاب على فتاة من العاصمة بجهة حي النصر الراقية، ونشأت بينهم علاقة صداقة تحولت إلى قصة حب عنيفة وقرّرا فجأة السفر إلى العراق وتحديداً الموصل، وقد أقنع أنور قبل ذلك التاريخ صديقته بارتداء الحجاب، الأمر ذاته مع والدته التي كانت غير محجبة ثم ارتدته بإلحاح من ابنها.
ويشدد محدثنا في الأثناء على أن والدة أنور كانت بدورها تشجّع ابنها على الصلاة والمضي في التدين، لكنها لم تكن تتوقع أن يصل به الأمر إلى السفر والالتحاق بتنظيم الدولة هناك.
رحلة الانضمام لداعش في العراق
محمد أشار إلى أن أنور قبل التحاقه بصفوف "داعش" أوهم والداه بأنه سيقوم بتدريب ضمن عمله في مجال الطيران في سويسرا لمدة 15 يوماً، لكنه باغت الأسرة وسافر إلى فرنسا، وكان يتواصل بهم يومياً عبر الشبكات الاجتماعية ليطمئنهم على وضعه وبأنه في سويسرا يقوم بتدريب مهني، إلى أن حدث ما لم يكن في الحسبان، حيث انقطع في يوم ما التواصل بين العائلة وابنها ما ضاعف شكوك الوالد وقرر بعدها الاتصال بالشركة السويسرية التي أعلمته بأن ابنه لم يلتحق بتاتاً بالشركة وأن مجالها لا علاقة له بالطيران، ومن هناك كانت الصدمة.
اتصال هاتفي من الموصل
قريب العائلة أكد أن الأب والأم تلقيا بعد ذلك التاريخ اتصالاً خارجياً من فتاة تعلمهم بأنها صديقة ابنهم أنور، وبأنهما التحقا بتنظيم داعش في العراق بعد أن انتقلا من فرنسا ثم تركيا وصولاً إلى مدينة الموصل حيث عقدا قرانهما هناك.
كما أشار محدثنا إلى أن أنور كان يتواصل مع والده في أوقات عدة عبر "الفايبر"، وكان يخبره بأنهم يقطنون في أحد المنازل ويقومون بتدريبات عسكرية هناك مقابل تلقيهم أموالاً، وفي الأثناء كان الأب يسعى جاهداً نحو إقناع ابنه بالعدول عن قراره والعودة لتونس وتسليم نفسه.
ندم ورغبة في الهروب من "داعش"
مع مرور الوقت بدأ الشاب أنور يملّ من الحياة في الموصل رفقة زوجته، لاسيما مع اشتداد القصف على المدينة وصعوبة العيش في ظل تراجع التنظيم عن مدّهم بالأموال.
وبحسب قريب أنور فقد اتصل الشاب فعلياً بوالده وأخبره بأنه ندم ويريد العودة لتونس، وقد شجعه والده على القرار واتصل بالجهات الأمنية في تونس منذ أول يوم ونسّق مع الملحق الأمني بسفارة تونس في تركيا محمد علي العروي الذي عمل سابقاً كمكلف بالإعلام في وزارة الداخلية، الذي وعده باقتفاء أثر ابنه عن طريق فصائل سورية متعددة ومهربين وسماسرة، إلى أن تم العثور فعلياً على الابن في سوريا، حيث استطاع اجتياز الحدود عن طريق وساطات من فصائل الجيش الحر التي سلّمته بدورها للسلطات التركية رفقة زوجته.
محمد أوضح أن فرحة الأم والأب آنذاك لا توصف، حيث كان الفقيد فتحي بيوض يردد على مسامعه قائلاً: "أن أرى ابني سجيناً في تونس أهون عليّ ألف مرة من أن يقتل أبرياء وأن تبعثر جثته إلى أشلاء في سوريا أو العراق".
لكن سخرية القدر لم تجمع شملهم كما يقول قريب العائلة: "فالأب وقبل يوم واحد من دخول ابنه الحدود التركية، الاثنين 27 يونيو/حزيران، كان في مطار أتاتورك الدولي يستعد لاستقبال زوجته سيدة بيوض لتتمكن بدورها من رؤية ابنه الوحيد ثم العودة لتونس، لكن القدر باغت الجميع في الهجوم الذي استهدف المطار، حيث كان الأب في صالة الانتظار بينما كانت الزوجة على متن الطائرة التي تنقلها من تونس نحو إسطنبول"، بحسب القريب.
جنازة رسمية للفقيد
جثمان الطبيب والعقيد في الجيش التونسي الراحل فتحي بيوض وصل منذ لحظات إلى تونس، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الدفاع التونسي بلحسن الوسلاتي لـ"عربي بوست"، حيث أكد أن الفقيد سيحظى بجنازة رسمية بالثكنة العسكرية بالعوينة بحضور شخصيات عسكرية باعتباره لايزال يمارس مهامه في صلب الوزارة، ليتم من الغد مراسم الدفن بمسقط رأسه بمدينة قصور الساف من محافظة المهدية.
وبحسب وسائل إعلام محلية فقد وافقت المصالح الأمنية في تونس على أن يحضر أنور جنازة والده مراعاة للظروف الإنسانية.
رحيل الطبيب التونسي فتحي بيوض خلف حرقة كبيرة بين زملائه وعائلته وصار حديث السياسيين ونشطاء الشبكات الاجتماعية الذين أثنوا على خصاله لاسيما أنه معروف بمهماته الإنسانية والأممية في دول عربية وإفريقية.