حينما يتبين لهم الخيط الأبيض من الأسود من فجر كل يوم تبدأ رحلتهم سعياً للخير، غير عابئين بمشقة الصيام وارتفاع درجات الحرارة، فلا يهدأ لهم بال إلا مع غروب الشمس وهم يحملون وجبات الإفطار ويطرقون مئات الأبواب التي تخفي وراءها أسر العوز.
هؤلاء هم عشرات من التونسيين من أعمار مختلفة ضمن فوج الكشافة في مدينة القيروان وسط البلاد، الذين اعتادوا وللعام الثالث على التوالي وخلال شهر رمضان، بالتطوع يومياً، بإعداد وتوصيل وجبات الإفطار وتوصيلها "سراً" 300 عائلة فقيرة في تلك المدينة.
"سمير قدونة" قائد فوج المدينة للكشافة، المشرف الأول على هذا العمل التطوعي، قال إن "هذا النشاط يتواصل للعام الثالث على التوالي، ونطمح لبلوغ 500 منتفع لو تتوفر لنا الإمكانيات".
وأضاف أن "جميع القائمين على عمليات الإعداد، والطبخ، والتوزيع، متطوعون من قادة الكشافة، أو أصدقائهم، أو أولياء أمورهم، باستثناء الطباخ المحترف، الذي يحصل على أجر مقابل عمله".
وما يميز موائد الإفطار هذه- بحسب قدونة- أنها تذهب إلى العائلات بشكل سرّي، بهدف تقديم المساعدة مع حفظ كرامة المنتفعين، وهذه الطريقة تختلف عن موائد الإفطار التي تقيمها جمعيات أخرى أو مؤسسات تابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية التونسية.
كما يهدف هذا النشاط الاجتماعي إلى "تربية أبناء الكشافة وغيرهم على العطاء ومساعدة الآخر بشكل عملي"، وفق قدونة.
وبفضل جهد المتطوعين، ومساعدات المتبرعين ارتفع عدد المنتفعين بموائد الإفطار من 100 أسرة في العام الأول، إلى 160 في العام الثاني، إلى 330 هذا العام.
واعتبر قدونة، أن "الوجبة المقدمة جيدة، وتشبه في مكوناتها وحجمها ما يتناوله الصائم في منزله، وتقدر النفقات اليومية لهذه الوجبات بين ألف دينار (500 دولار)، وألفي دينار (1000 دولار)، وتبلغ القيمة المالية للوجبة الواحدة حوالي 5 دنانير (2.5 دولاراً)، وهي تكلفة غير عالية نظراً لكون المشرفين متطوعين.
ويأمل قدونة في زيادة عدد المنتفعين من هذه الوجبات ومساعدة عدد أكبر من العائلات بشرط أن تتوفر لهم الإمكانيات، مضيفاً أنهم في انتظار تدخل الجهات الرسمية للمساعدة.
وعن جهات التبرع يقول قائد فوج المدينة للكشافة: "تأتي ميزانية موائد الإفطار من تبرعات رجال أعمال وأصحاب متاجر، منهم من يقدم مساعدات نقدية، ومنهم من يقدم مواد استهلاكية من حليب أو لحوم وغيرها، ويتم التبرع عبر الحساب الجاري للمنظمة، أو عن طريق وصولات مضبوطة بسجل مراقب، وهناك شخص (قائد كشافة) مكلف بالجانب المالي للمشروع".
ولتحضير هذه المساعدات، ينتقل فوج المدينة للكشافة التونسية إلى مطبخ مدرسة علوم التمريض بالمدينة (توقفت عن التدريس)، لإعداد وتجهيز الوجبات، وهو على مرمى حجر من جامع عقبة بن نافع بمدينة القيروان (أسسه الفاتح عقبة بن نافع الفهري عام 50 من الهجرة).
ويتجه المشرف (قائد فوج المدينة للكشافة) فجر كل يوم إلى سوق الجميلة للخضر والغلال، بوسط العاصمة تونس، فيجلب الكميات التي يحتاجها المطبخ، ثم تبدأ عملية التحضير للطبخ من تنظيف، وتقشير، وهكذا، ومع عصر كل يوم تنطلق عملية وضع الوجبات في الأطباق المخصصة لها ثم توزيعها، بحسب قدونة.
ويتم إعداد الأكلات حسب برنامج أسبوعي بشكل متنوع، من حيث القيمة الغذائية للوجبة، وخاصيتها، اعتماداً على ثراء المطبخ التونسي عموماً، والقيرواني خصوصاً، وتخضع العملية للمراقبة الصحية من قبل المصلحة التابعة لوزارة الصحة.
"عائشة النقاطي" (قائدة كشافة)، المشرفة المالية على المشروع، روت قصة كل يوم، قائلة إن "مثل كلّ أمّ تشتعل الحيرة برأسنا يومياً، ونفكر في الأطباق التي يمكن إعدادها، نريد أن تكون الأطباق متنوعة من صلب عاداتنا وتقاليدنا، وأن تكون مشتهاة لدى العائلات الفقيرة".
وأشارت إلى أن "المتطوعين منهم موظفون يأتون إلى المركز للتطوع مباشرة بعد الخروج من العمل، فقيمة التطوّع موجودة لدينا في الموروث الاجتماعي خصوصاً في رمضان، عدد المتطوعين كبير رغم ارتفاع درجات الحرارة (تفوق 40 درجة مئوية)، أحيانًا نعتذر لبعض المتطوعين بطريقة ظريفة".
فضاء إعداد الطعام يعج بالمتطوعين، خصوصاً من الشبان (فتيات وفتيان) حوالي 50 فرداً، كل مجموعة تتعهد بتنفيذ جزء من عملية الطبخ والإعداد حسب الاختصاص والمهارات.
"خلود فرشيشي" واحدة من المتطوعين، بمجرد إتمامها اختبارات البكالوريا (الثانوية العامة)، قررت مشاركة أصدقائها في العمل التطوعي هي تلميذة متفوقة وتنتظر خبر نجاحها باميتاز.
خلود قالت: "هذا العمل فرصة للقاء أصدقائي، وأيضاً لتعلم الطبخ إلى جانب مساعدة الفريق المتطوع في مساعدة العائلات الفقيرة، أقوم بإعداد "البريك" (أكلة شعبية رمضانية في تونس)، ومساعدة رئيس المطبخ".
وتأمل خلود أن يتضاعف عدد المنتفعين قائلة: "أحب أن أرى عدد المنتفعين يزيد لمساعدة أكبر عدد ممكن من الناس المحتاجين".
بعد إتمام عملية إعداد الطعام وتجهيز الأطباق، يقوم شبان متطوعون بتوزيعها على متن دراجاتهم الهوائية، فهم يأتون في موعد محدد بعد العصر، للقيام بهذا العمل، ومن بينهم الطالب يحيى هروم (13 عاماً)، الذي قال إنه يحمل صندوقاً فوق دراجته به طبقان ويتجه به إلى أحد المنازل ثم يعاود الكرة.
ويعرف الأطفال منازل المنتفعين فيتسابقون إلى توزيع أكبر عدد ممكن من الأطباق إلى المنازل القريبة في المدينة العتيقة، والأحياء القريبة من مركز الإعداد، في حين يتعهد أصحاب السيارات وهم متطوعون أيضاً بإيصال الأطباق إلى العائلات التي تسكن بعيداً.
ويتم تحديد قائمة المنتفعين بالتنسيق مع السلطات المحلية التي تتوفر لديها قوائم بأسماء العائلات الفقيرة، مع التحري عن بعض الأسماء من خلال الجيران والأصدقاء.
وحسب إحصائيات رسمية متوفرة لدى الإدارة المحلية للشؤون الاجتماعية بالقيروان (حكومية)، يبلغ عدد العائلات المعوزة (الفقيرة) في محافظة القيروان 13 ألفاً و100 عائلة، بخلاف 43 ألف عائلة محدودة الدخل بالمحافظة ذات الـ 570 ألف ساكن.