فلسطين كلمة مكونة من ستة حروف، اثنان منها مهموسان (ف، س) والأربعة الأخرى جهرية (ل، ط، ي، ن)، وكأن قلب المرء تارة يهمس في خلوته بحبه لها، وتارة يصرخ بأعلى صوته: أحبك فلسطين.
فلسطين بالنسبة لي ليس اسم بلد إسلامي عربي فقط، بل هي أكثر من ذلك، هي ذكريات طفولة، نعم ذكريات كتبت بدموع ذرفت على أطفال قُتلوا، وشباب اعتُقلوا، وشيوخ هجّروا… إلخ، ذكريات كُتبت بغبار القنابل، وضجيج الطائرات الحربية، وأصوات المدافع… إلخ، ذكريات كُتبت بصراخ الأطفال، وتكبيرات المقاومين، ذكريات جمعتها من شاشة التلفاز الصغيرة في بيتنا، التي كان أفراد عائلتي يتجمعون أمامها ليتابعوا أخبار الحرب على فلسطين، وهم بين متحسر، ومتألم، وحاقد على الوضع.
كنت أسمع حوارات أهلي حول الحرب، وأسمع تحليلات الجيران وكيف أن سبب الحرب هم أهل فلسطين الذين باعوا أرضهم بثمن بخس، كنت حينها طفلة صغيرة لا أفهم شيئاً، سوى أن قلبي كان يؤلمني بشدة، وأصاب بهستيريا بكاء عندما أشاهد صور الشهداء، فألتجئ إلى حضن أمي أو جدتي التي لا يهدأ لسانها من دعاء مرة لأهلنا في فلسطين بالصبر والنصر، ومرة بالدعاء على المحتل بالهزيمة والموت.
وهكذا تعرفت على فلسطين، تعلمت رسم خارطتها، ورسم حنضلة، وحفظت أناشيد ميس شلش، وجعلت صندوقاً خشبياً كان قد أهدي لي صندوقاً لجمع التبرعات للفلسطينيين، علقت عليه صورة المسجد الأقصى وكتبت عليها كلمة فلسطين، وفي اليوم الموالي أخذت الصندوق معي إلى المدرسة طلبت من زميلاتي التبرع، حتى إني أخبرتهن أنه يجب علينا أن نقوم بمظاهرة لنصرة إخواننا في فلسطين -طبعاً الفكرة لم تكن فكرتي وإنما كنت أقلد خالي- إلا أن زميلة لي أخبرت معلمتي بالأمر، فمنعتني المعلمة وشرحت لي أنه لا يمكن أن نقوم بمظاهرات بدون ترخيص، ولم أستطع أيضا أن أجمع التبرعات، فمَن هذا الأحمق الذي سيقدم ماله لطفلة تبلغ من العمر 8 سنوات تقول إنها تجمع التبرعات لترسلها للشعب الفلسطيني.
مرت الأيام وكبرت وكبرت معي القضية الفلسطينية، أصبحت أنشد أناشيد ميس شلش في الأمسيات الثقافية والدينية، وأتقمص دور الأم الفلسطينية التي تودع ابنها الشهيد أو دور الصبية التي اختارت أن تزف إلى الفردوس الأعلى بدل أن تزف لزوجها، ومرت الأيام وكبرت أكثر فأصبحت أحفظ تواريخ الحروب على فلسطين، وأسماء الشهداء والفدائيين والقادة والمقاومين، أصبحت معجبة بشخصية أحمد ياسين وعبدالعزيز الرنتيسي، وعز الدين القسام… إلخ، وأصبحت أكتب لفلسطين.
وفي حرب 2008 كبرت أكثر فأصبحت أناقش أسباب وتطورات الحرب، وأحصي عدد الشهداء وأقارنها مع عدد قتلى المحتل، حتى إنني أصبحت ألعن الصمت العربي، أصبحت ارتدي كوفية كان جدي قد اشتراها لي عند أدائه لمناسك الحج، أصبحت أسهر أمام شاشة التلفاز لأتابع كل التطورات الميدانية في فلسطين، أصبحت أخرج في مظاهرات وأرفع الشعارات، حتى إنني كنت أتصل بأرقام من غزة وأخبرهم بأننا في المغرب نساندهم، وندعو لهم بالنصر، وفي الوقت نفسه كنت أبكي بشدة من بشاعة المنظر، وأتمنى لو أنني كنت طبيبة لأتطوع لمعالجة الجرحى في غزة، أو أنني ولدت ثرية لأشتري للمقاومة أسلحة لتدافع عن المواطنين العزل، وتمنيت لو أنني مهندسة فأتطوع لترميم البيوت والمدارس والمساجد التي هدمها المحتل، كنت أتمنى وأتمنى وعندما أتعب أدعو القهار أن ينصر فلسطين ثم أخلد للنوم.
ومرت الأيام وكبرت أكثر، وأصبحت أكتب تدوينات عن فلسطين في مواقع التواصل الاجتماعي، وأنشر كل الأخبار المتعلقة بها، حتى إنني كنت أقوم بإنجاز مقاطع فيديو عن فلسطين أو إحدى شخصياتها المناضلة، لكن لأني كبرت لم تعد هذه الأمور تهدّئ من ألم قلبي الذي يزداد مع مرور الوقت، كما أن البكاء أيضاً لم يعد يجدي نفعاً، فقد أصبحت أختنق وأشعر بالغثيان كلما شاهدت صوراً من الحرب، وقد تزامن ذلك مع أحداث الربيع العربي، فكانت كمية الدماء والدمار التي تعم شاشات التلفاز ومواقع التواصل الاجتماعي كثيرة فوق طاقة تحملي، حاولت أن أصمد وأشارك تلك الصور والمقاطع المصورة، إلا أنني لم أستطع فقررت أن أبتعد وأكتفي بالدعاء.
وهكذا تكون قد مرت سبعة عشر عاماً ولم تستطع الطفلة في داخلي أن تملأ صندوق التبرعات، ولا هي أصبحت طبيبة، ولا مهندسة، ولا ثرية، ولم تعد المسرحيات والأناشيد تجدي نفعا، بل حتى المظاهرات هي الأخرى لم تعد تؤثر.
لذلك قررت أن أتعرف على فلسطين، أن أحفظ تاريخها لألقنه للجيل القادم جيل التحرير، أن أخبرهم بأن الشعب الفلسطيني لم يبِع أرضه يوماً كما أخبروني في طفولتي، بل بالعكس العرب هم مَن خانوا وباعوا أرض فلسطين، سأخبرهم بأن الشعب الفلسطيني هو أعظم شعب، سأخبرهم بأنني أحب فلسطين حباً جماً، لكن لا أملك لها سوى الدعاء، فأنا لست سوى طفلة ما زالت تتمنى وتتمنى.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.