للصيام مقاصد.. المقاصد التعبدية أولاً “1”

يعتبر الصيام من أقوى العبادات في تربية خلق الأمانة لدى المؤمن، إذا أقبل عليه المؤمن وأداه بصدق وإخلاص ومراقبة؛ لأن الصيام في حقيقته سر بين المؤمن وخالقه -عز وجل- لا يطلع عليه أحد

عربي بوست
تم النشر: 2016/06/25 الساعة 04:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/06/25 الساعة 04:48 بتوقيت غرينتش

تمهيد لا بدَّ منه:
لقد شرع الله -عز وجل- عبادة الصيام من أجل تحقيق مقاصد سامية، تجلب للإنسان المصالح، وتدرأ عنه المهالك في حياته الدنيا، ومن ثمَّ كانت عناية العلماء عظيمة ببيان أحكام هذه الشعيرة الإسلامية الجليلة من جوانب متعددة.

فمنهم من ألَّف في بيان الأحكام الفقهية المتعلقة بالصوم، وهذا النوع هو الغالب على تآليف علمائنا الأفاضل، فمن هؤلاء الفقهاء من ألف كتابه مجرداً عن الأدلة والتعليل تسهيلاً وتيسيراً للمتلقي، وآخرون عرضوا الأحكام مؤيدة ومؤكدة بالأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس.

ومن المحدثين من اعتنى برواية الأحاديث الواردة في باب الصوم واستنباط أحكام فقهية، ومنهم من اتجهت همته إلى جمع أحاديث المختصة بالصوم وترتيبها وتبويبها، ومن المؤلفين من تصدى بمؤلفاته لبيان أسرار الصوم وحكمه وتتبع ما فيه من وظائف.

كما اهتم الأطباء في وقتنا المعاصر ببيان الفوائد الصحية والمنافع الطبية المخصصة والحاصلة من التعبد بهذه العبادة، للعابد انطلاقاً من قول النبي صلوات الله وسلامه عليه: (صوموا تصحوا)، وهكذا فكل عبادة تشتمل على جانبين: جانب العبودية الخالصة لله عز وجل، وجانب الفائدة التي يجنيها العابد، سواء علمها الناس أم لم يعلموها.

وحسبي من خلال هذه السلسلة التي سأتناول في كل جزء منها مقاصد الصوم، التعبدية، والروحية، والصحية، والاجتماعية، والاقتصادية محاولة لمّ شتات هذا الموضوع المتناثرة أجزاؤه هنا وهناك.

أولاً: المقاصد التعبدية للصوم

عندما جعل الله رمضان أفضل الشهور، وفيه كان أكبر حدث في تاريخ البشرية، وهو نزول القرآن، وفيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، دل ذلك يقيناً على وجود أهداف ومقاصد وأسرار تنطوي عليها هذه الفريضة العظيمة، مما يستدعي الوقوف على بعض جوانب طبيعة ودلالات هذه المقاصد والأسرار.

جاء في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)، قال بعض المفسرين إن معنى "لعل" في قوله سبحانه: (لعلكم تتقون) تعني: "الإعداد والتهيؤ"، أي أن الصوم يعد الصائم ويهيئه إلى مراقبة الله والحياء منه ليتم للمؤمن كمال الإيمان، وهذا تأكيد على أن العبادات لا تحقق مقاصدها إلا بالتربي عليها، يقول الشيخ محمد عبده: (الإسلام يعلمنا أن الصوم إنما فرض لأنه يعدنا للسعادة بالتقوى، وأن الله غني عنا وعن عملنا، وما كتب علينا الصوم إلا لمنفعتنا).

ويقول الشيخ محمد رشيد رضا مؤكداً هذا الأمر: (وأعظم فوائده كلها الفائدة الروحية التعبدية المقصودة بالذات وهي أن يصوم لوجه الله تعالى كما هو الملاحظ في النية، ومن صام لأجل الصحة فقط فهو غير عابد لله في صيامه فإذا نوى الصحة مع التعبد كان مثاباً كمن ينوي التجارة مع الحج).

فبالإضافة إلى كل ما ذكرنا نجد أن هناك مقاصد وأسراراً منبثقة عن المقصد التعبدي الأصلي تابعة له، باعتبار أن أيام رمضان يرافقها بعض التحولات والتغيرات في سلوك الفرد والأسرة وحياة الأمة، من ذلك أن الصوم تمرين عملي على قوة الإرادة وتربية وتعليم للصبر، ومن ذلك أيضاً أن الصوم أمانة فيها تعريف بالنعمة وشكرها.

ولأن رمضان يعلم الصبر نسبه الرسول صلى الله عليه وسلم إليه فقال: (الصوم شهر الصبر ولثلاثة أيام من كل شهر يذهبن وحر الصدر) وروي عنه في حديث آخر: (لكل شيء زكاة، وزكاة الجسد الصوم، والصوم نصف الصبر).

ويعتبر الصيام من أقوى العبادات في تربية خلق الأمانة لدى المؤمن، إذا أقبل عليه المؤمن وأداه بصدق وإخلاص ومراقبة؛ لأن الصيام في حقيقته سر بين المؤمن وخالقه -عز وجل- لا يطلع عليه أحد متى يلقى الله -عز وجل- فيجزيه الجزاء الأوفى، ولعل هذا هو ما يفهم من قول الله جل شأنه في الحديث القدسي: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي".

يقول أبو الحسن الندوي إن صوم رمضان لهيئته الاجتماعية وشيوعه في المجتمع الإسلامي عرضة لأن يتغلب عليه التقليد واتباع العادة، وأن لا يصومه كثير من الناس، إلا مسايرة للمجتمع، وتفادياً من الطعن والملام، وأن يشار إليهم بالبنان.. أو يصومه بعض الناس لغايات مادية، أو مقاصد صحية واقتصادية. فكان من حكمة النبوة الباهرة، وفقه الرسالة العميق، أن اشتراط النبي صلى الله عليه وسلم للصم المقبول عند الله الإيمان والاحتساب، فقال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).

فلكي تستقيم العبادة مع مقتضى العبودية، فلا بد من استرواح روحها واستحضار معانيها التي تعين على إعادة الروح لأعمال العبادة حتى لا تتحول إلى عادة، التي تفقد الكثير من معاني العبودية المطلوب تقديمها في صيامنا ونسكنا وسائر أمور حياتنا ومعادنا، قال عز من قائل (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين).

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد