أي حداثة تلك التي نريدها! أو تلك التي ندعيها! هل هي حداثة الفكر المغربي العبقري، الذي صمد لقرون خلت! أم حداثة الجسد المحتشم، المغموس في قماش التخلف كما يقولون؟!
لنرجع إلى الوراء، إلى عهد الاستعمار الفرنسي لعدد من المدن المغربية؛ حيث إن المرأة آنذاك كانت حبيسة بيتها، في ظل مجتمع ذكوري، وقلما خرجت إلى الشارع، وإن خرجت فلا تخرج حتى ترتدي الحايك أو الجلباب المغربي، وتتستر بهما عن أعين الفضوليين، لكنها ورغم أعراف مجتمعها، الكفيلة بجعلها كائناً للكنس وتربية الأولاد فقط، دونما فكر ولا تعلم ودون الأخذ بمشورتها، إلا أنها كابدت حتى تقمصت أدوار الرجال، وحملت السلاح إلى المقاومين الأحرار، فصنعت مجد وطنها، وانسلخت من الفكر الرجعي، الذي يلغي دور المرأة في المنظومة السياسية، بل خطت خطوات واعدة نحو مدارج الحداثة، خصوصاً أنها كانت تقارن بينها وبين الفرنسيات آنذاك، طريقة لباسهن، وكلامهن، وكيف كن يساهمن في وضع الحجر الأساس للقوانين والسياسات لأوطانهن، إلى جانب أزواجهن، دونما أي عارض قد يعترض طريقهن.
هنا شمرت عن ساعدها، وأبرزت للعالم بأسره أن الحداثة ليست في اللباس، بل في الفكر المنفتح، الملتزم بالضوابط والأخلاقيات، وليست في الجسد الذي تفوح منه ألف رائحة.
وحينما نذكر الجسد الحداثي، فإننا نجد الجسد التقليدي والبيولوجي، قد أحدثت عليه طفرة لا أخلاقية، عند الفكر الغربي أصلاً، وعند المفكرين العرب فرعاً، تحولت من خلاله المرأة إلى أداة للإشهار، ووسيلة لجلب الاستثمارات، ومرمى لكل متطفل، بل إن صح التعبير أضحت وطناً للمرضى بالسيكيزوفرينية، والحمى الصماء، وكل هذا تحت مبرر الحداثة… إنها الحداثة السوقية بامتياز، وإذا ما رجعنا إلى (أنثروبولوجيا الجسد والحداثة) عند "دافيد لوبروتون"، نجد وصفه للجسد عند الغرب، كما هو الشأن عند العرب الذين يدَّعون الحداثة، وبلا مبالغة؛ حيث يبرز ذلك التحول التدريجي، ويصفه وصفاً دقيقاً، بأن "هذا الجسد بالفعل تحول إلى قوة إنتاج، وأداة عاملة، وسلعة للمتاجرة ورأسمال للاستثمار والربح، فقد قيمته الرمزية الأخلاقية، وتحولت الثورة من أجل تحريره، في تجارة رائجة للجنس في شكل بوروتوجرافيا، بل أصبح الجنس يمارس شفاهة، خلال أجهزة المعلوماتية أو ما يشبه التلفزيون، ينقل إليك ويحاورك في كل ما تطلبه، بما في ذلك إثارة أحاسيسك الشبقية وإرواؤها شفهياً.
بل إن الرياضة بمهرجاناتها وثقافاتها وجوائزها أصبحت تجارة دولية بألعابها وما يرتبط بألعابها، من ملابس وأدوات وأدوية وعلاجات، بل أصبحت مجالاً لتنمية الكراهية بين الناس، ونمطاً إنتاجياً لصناعة الموت، في كثير من الأحيان، فضلاً عن التغييب عن القضايا الإنسانية"، شأنها أحياناً شأن المخدرات والمسلسلات التلفزيونية.
أما بالنسبة لحداثة الفكر، فلا بد أن تراعي الأنساق الفكرية، والتعددية، وتحترم المقدسات، أما دون ذلك فهي مجرد خزعبلات، لا أصل لها ولا مرجع، هي تلك الحداثة التي أرادوها، حداثة ميعت الفكر العربي بصفة عامة، والفكر المغربي بصفة خاصة، وجعلت منه وسيلة لإشباع رغباتهم الهوجاء وإعادة إحياء الفكر الاشتراكي والراديكالي، تحت مبرر فتح آفاق جديدة أمام المثقف العربي، وتحريره من قيود الظلامية والرجعية والتخلف و….. وكأنهم إن صح التعبير يعانون من إسلاموفوبيا باتت ترعبهم.
إن الحداثة التي نطمح إليها هي حداثة ترعرعت وتطورت مع "النورسي"، و"مالك بن نبي" و"محمد عبده" و"الكواكبي"، و"طه عبدالرحمن" وغيرهم من المفكرين الذين كانوا يهتفون بالنهضة صباح مساء، عسى العالم أن يستيقظ من سباته ويطرح أسئلة ما بعد الحداثة المنشودة.
والحداثة التي نريدها هي حداثة تتماشى مع المنهج الوسطي المعتدل، لا إفراط ولا تفريط… حداثة لا تمنع الرجل من ارتداء اللباس الكلاسيكي وربطة العنق، ولا تمنع المرأة المحتجبة من ارتداء لباس أنيق، بشرط أن يحترم الأخلاقيات العامة، ولا يخل بالدين الإسلامي..
حداثة تفتح للفكر آفاقاً واسعة، للتجاوب مع مختلف القضايا المعاصرة، والتعامل مع مختلف الديانات والأطياف والجنسيات، دونما ذوبان فيها، ولا انصهار… حداثة تحترم خصوصية الجسد الإنساني، ولا تستغله في مآرب تفقده قيمته وتجعله حيوانياً، إن صح التعبير..
حداثة تحترم قداسة الأسرة بجميع مكوناتها، وتدافع عنها باعتبارها ركيزة المجتمع..
حداثة تتعايش سلمياً، وتقبل بالاختلاف، وأن التغيير يبدأ بالتدرج، لا مرة واحدة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.