أقرّ الطاقم الطبي في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (السي آي إيه) بأن وسيلة التعذيب المتبعة في حبس المساجين داخل صناديق صغيرة بالكاد تتسع لأجسامهم ليست بحد ذاتها وسيلة "فعالة"، لكنهم مع ذلك قدموا النصح والمشورة لفريق المحققين كي يستمروا في إعمال وسيلة التعذيب هذه المسماة "صناديق الحبس" على مدار عدة ساعات متصلة.
وكانت وثائق حساسة رفعت عنها السي آي إيه سريتها قد كُشِفت ورصدتها الغارديان البريطانية في 15 يونيو/حزيران 2016، تظهر مدى الدور الذي اضطلع به الفريق الطبي في تعذيب مساجين – معظمهم مسلمين – بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول.
إرشادات التعذيب
فقد قدم موظفو مكتب الطاقم الطبي تعليمات محددة لفرض الحرمان من النوم على المساجين وتخفيض مدخول السعرات الحرارية في طعامهم والوضعيات المحددة عند تعذيبهم بالإيهام بالغرق، كلها مدونة ومذكورة في وثيقة يرجع تاريخها إلى عام 2004 بعنوان "'إرشادات للدعم الطبي والنفسي" في التعذيب.
وفي حال امتنع السجين عن تناول الطعام داخل أحد السجون غير المعترف بها للاستخبارات خارج البلاد والتي تكنى باسم "المواقع السوداء" فإن مكتب الطاقم الطبي أوصى باتباع طريقة معينة لإجبار السجين على الأكل هي شرجياً، في وسيلة يعدّها مناصرو حقوق الإنسان مساوية للاعتداء الجنسي.
في عام 2014 انتقد تقرير لمجلس الشيوخ أسلوبَ وكالة الاستخبارات المركزية المتبع في الحبس الانفرادي لعدم فعاليته ولهمجيته وقسوته، ومنذ ذلك الحين دأبت الوكالة على الإشارة والتذكير دوماً بأن ممارساتها في التعذيب جميعها موصى بها من قبل مكتب الطاقم الطبي وأنها ضمن إطار إرشادات السلامة والتوصيات الطبية التي قدمها الفريق الطبي.
ومع ذلك يقول الأطباء المهتمون بأمور حقوق الإنسان أن موظفي مكتب الطاقم الطبي ارتكبوا خرقاً لأهم أساسيات أخلاق مهنة الطب: عدم الإضرار وإلحاق الأذى. حيث زودوا موظفي التعذيب في الوكالة بتوصيات أشبه بـ"وصفات تعذيب طبية" لإنزال أشد العذاب والألم الممكن بالمساجين.
وصمة عار
يقول فنسنت ياكوبينو المدير الطبي لمؤسسة "أطباء من أجل حقوق الإنسان "إن تلك الإرشادات وصمة عار على جبين مهنتي ومجال الطب والصحة النفسية، عارٌ على العاملين في مجال الطب والصحة، وعليهم أن يخجلوا من أنفسهم لدفاعهم عن وثيقة كهذه".
ومن بين وسائل التعذيب المذكورة في الوثيقة التي تعود لعام 2004 جاء ذكر وسيلة يوضع فيها السجين داخل ما يسمى "صناديق غريبة"، وهو تكنيك كان أول من اقترحه عالما النفس المتعاقدان مع الوكالة جيمس ميتشل وبروس جيسن، ويسمى أيضاً "صندوق الحبس" وقد ظهر إعلامياً على الشاشة في فيلم Zero Dark Thirty.
وجاء في الوثيقة الصادرة عن مكتب الطاقم الطبي، أن بعض الصناديق عبارة عن "مكعبات بالكاد يستطيع المرء الجلوس متربعاً داخلها"، حيث سُمِح للمكلفين بتعذيب السجناء أن يحبسوهم في تلك الصناديق لساعتين متواصلتين "على فرض غياب أي حالات ضعف طبية قلبيةَ كانت أو عضلية هيكلية".
أما الصناديق الأطول "والمستطيلة التي بالكاد تزيد الشيء اليسير عن طول قامة السجين ولا يزيد عرضها عن عرض جسمه وليست عميقة نسبياً" فيمكن احتجاز السجين فيها لـ"8 ساعات متواصلة بما مجموعه 18 ساعة يومياً".
266 ساعة تعذيب
وكان اعتقال وتعذيب أبي زبيدة عام 2002 بداية تجريبية لبرنامج التعذيب في وكالة الاستخبارات المركزية، حيث قضى ما مجموعه 266 ساعة (أي ما يعادل أكثر من 11 يوماً) داخل الصندوق الطويل الذي وصفه تقرير مجلس الشيوخ بأنه يشبه التابوت. أما صندوقه الأصغر فكان عرضه 53 سم وارتفاعه 76 سم وعمقه كذلك، حيث حبسه مسؤولو الوكالة فيه لما مجموعه 29 ساعة، وكانت تجارب برنامج الحبس تلك ضمن فترة "عنيفة" دامت 20 يوماً حسب ما جاء في تقرير مجلس الشيوخ.
ونوه التقرير إلى أن "موظفي الاستجواب في وكالة الاستخبارات أخبروا أبا زبيدة أنه لا سبيل له لمغادرة المكان سوى بصندوق حبس يشبه التابوت".
كذلك كُشِف النقاب عن وثيقة أخرى يوم الثلاثاء 14 يونيو/حزيران 2016 جاء فيها أن أبا زبيدة كان من الممكن له أن يتعاون مع مستجوبيه من دون تعذيبه بالإيهام بالغرق، بيد أن المستجوبين استخدموا تلك الوسيلة في تعذيبه، والتي يتعرض السجين فيها للخنق بالإغراق 83 مرة خلال شهر واحد.
هل فعالة؟
مع ذلك لم يجد موظفو الطاقم الطبي الذين كتبوا الإرشادات، أن لصناديق الحبس هذه قيمة كبيرة فعالة لاستخراج المعلومات من السجين، حيث ذكروا في وثيقتهم "لم تثبت الصناديق فعاليتها بحد ذاتها لأنها باتت المنجي والملاذ والاستراحة من عملية الاستجواب".
كذلك تمنع اتفاقيات جنيف ومعاهداتها "تضييق الحبس" على سجناء الحرب، وهو أمرٌ حرم منه سجناء وكالة الاستخبارات في عهد الرئيس بوش، اللهم إلا في حالات "دعت فيها الضرورة للحفاظ على صحتهم".
كذلك جاء في الوثيقة أن الطاقم الطبي يوصي موظفي الاستجواب في وكالة الاستخبارات بأساليب وتقنيات تعذيب متنوعة مقبولة وموافق عليها طبياً من مثل تعريضهم لوضعيات التوتر على فترات طويلة وفرض قيود شديدة على طعامهم بغرض الحرمان، فضلاً عن الإيهام بالغرق.
وجاء أنه بالنسبة للسجناء الذين ليست لديهم "حالات تعارض طبية" فإنه يمكن إبقاؤهم في وضع متوتر مكبلين بالأصفاد ومشدودي الوثاق لفترات مطولة (تصل 48 ساعة) وقوفاً "شرط أن لا توثق الأيدي على مستوى أعلى من الرأس وأن يكون وزن الجسم ملقى على الأطراف السفلى"؛ بيد أن استبقاء السجناء واقفين من شأنه التسبب بـ"وذمات" أو "استسقاء" أي احتباس السوائل في في أسفل الجسم، ولهذا توصي الوثيقة "بضرورة الانتباه إلى محيط الساق وتناسبه مع مقاس سوار الأغلال والوثاق".
وكذلك أوصى الطاقم الطبي أن تتبع وكالة الاستخبارات لفترات قصيرة فرض "وضعيات موصدة الوثاق أكثر توتراً" من خلال ربط ساعدي شخص ما "فوق مستوى رأسه وبحيث تكون الأكواع حرة لمدة ساعتين ومن دون القلق من أية مشاكل تذكر".
وتضيف الوثيقة أن الإبقاء على السجين في هذه الوضعية من 2 إلى 4 ساعات "قد يستلزم الحذر وينبغي مراقبة السجين في حال فرط معاناته".
تقليل الطعام
وبالإشارة إلى أنظمة الطعام المرعية فقد أوصى الطاقم الطبي بـ"حد أدنى قدره 1500 سعر حراري في اليوم الواحد وأن مدخولاً قدره 1000 سعر فقط في اليوم يعد آمناً ويمكن تكرار تطبيقه أسابيع متعاقبة". أما في حالة بدأ السجين إضراباً عن الطعام والشراب فيوصي الطاقم الطبي بإطعامهم قسراً بإدخاله عبر "أنبوب شرجي" قبل اللجوء إلى حقنه وريدياً.
حيث يقول التقرير "بما أنه أقل الإجراءات الطبية جوراً، فإن الأنبوب الشرجي يعد الوسيلة الأولى للتدخل والمفضلة لدى مكتب الطاقم الطبي".
وكان أحد السجناء وهو ألماني اسمه خالد المصري، احتجزته وكالة الاستخبارات المركزية بطريق الخطأ قد خسر 23 كيلوغراماً من وزنه في 5 أشهر أثناء احتجازه في أحد تلك "المواقع السوداء" وفق وثيقة سرية أخرى.
وجاء في الوثيقة أن الإيهام بالغرق "قطعاً أكثر تقنيات الاستجواب المحسنة معاناة". وتورد الوثيقة لائحة فيها نقاط تلخص المحاذير الطبية التي قد تمنع استخدام تقنية الإغراق، وتحذر من أن الإجراء قد يتسبب بمرض ذات الرئة أو حتى الموت.
كذلك أعطى الطاقم الطبي تعليمات للمستجوبين حول كيفية إنعاش المساجين المختنقين بـ"لكزة في الصدر أسفل العظمة السيفية"، وفي حال عجزت الإسعافات الأولية عن إنقاذ حياة المختنق فإن التعليمات توصي بـ"تدخل طبي عنيف".
كذلك جاء أن "مجموع آثار" جلسات الإغراق المطولة (والمعرفة على أنها 3-5 أيام من برنامج عنيف مكثف) "قد تشكل مصدر قلق" ونصت الوثيقة على أن "استخدام الإغراق العنيف والمطول من بعد ذلك قد يُعد غير مناسب طبياً".
تجارب بشرية
ومع أن وكالة الاستخبارات المركزية ممنوعة من إجراء تجارب بشرية إلا أن مكتب الطاقم الطبي يوصي بـ"توثيق كل استخدام لتكنيك الإغراق بشكل مفصل" وذلك بغية "إثراء الرأي الطبي وتوصياته مستقبلاً بشكل أفضل".
هذا وقد كُشِفت وثائق وكالة الاستخبارات المركزية، التي منها تقرير مجلس الشيوخ عن وسائل التعذيب، نزولاً عند أحكام قضائية بالشفافية رفعها الاتحاد الأميركي للحريات المدنية ومؤسسة Vice News الإعلامية الإخبارية.
ويقول ياكوبينو من مؤسسة "أطباء من أجل حقوق الإنسان" والذي هو شخصياً طبيب "إن هذه [الوثائق] كتيبٌ [ليتعظ] العاملون في حقل الصحة والطب لمساعدة ومكافحة ممارسات التعذيب ولتهدئة روع الناس كي يقاوموا تلك الممارسات بروح معنوية عالية. هناك الكثير من الوثائق المكتوبة التي تذكر وسائل التعذيب هذه وسوء المعاملة. إنها تسبب بآلام نفسية وجسدية دائمة، ويجدر بكل طبيب أن يسمو فوقها".
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Guardian البريطانية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.