البناء يستوجب الهدم، كما قال "نيتشه"، والهدم إن لم يشمل الكل ليس هدماً بالمعنى الصريح..
تواصل الحياة دورتها في رتابة مقيتة وفي مشهد يتكرر بشكل مقلق، يتوالى الليل والظلام وتغيب الشمس؛ لتعود من جديد دون أن يتغير شيء، يتشظى القمر، يستحيل بدراً فهلالاً ثم يسقط في جوف الكون، يخفت ليصبح مرادفاً للسكون، يئن وينكسر تماماً كبني البشر؛ ليبعث من جديد وكأني به ينبت من رماده الذي تشكل ذات سقوط وانكسار..
في الجانب السحيق من الكون، أناس يجسدون نفس المشهد، برتابته وانكساراته وكبواته وأشيائه الصغيرة، لا شيء عظيماً يحدث سوى الصور ذاتها.. ومن بين الناس جميعاً، أنا..
ذلك الغرير الذي ينظر للكل بمنطق الجزء الذي يأبى الانصياع لمنطق الكل؛ لغلبة الجمع ومسلمات الدين والثقافة والأعراف وكل ما يقيد حريته في اعتناق ما سلب من الطبيعة ذات سطو على قوانينها حيث لا مسلمات غير مسلماتها..
أغمض عيني لأدلف في رحلة البحث عن الحقيقة، أسائل القلب والعقل والمنطق والواقع، وما تسرب لدواخلي بفعل تنشئة يحكمها الشيء ونقيضه في مشهد غير مرتب، علني أجد الإجابات الممكنة لكل الأسئلة غير الممكنة..
كيف لهذا أن يتحدث باسم الله؟ وكيف لذاك أن يظن أن إلهه أصدق وأعمق من إله الآخر؟ ومن أعطى لهذا الحق في أن يعتبر دينه حقيقياً وتجسيداً لإرادة الله بخلاف دين الآخر؟ ثم كيف سولت له نفسه أن يجزم بتزوير وتحريف كتاب مؤمن آخر ويعتقد بشكل وثوقي أن كتابه لا تشوبه شائبة؟
– ما دليلك سيدي؟
– إنا له لحافظون!
– عفواً ما دليلك؟ لا تستظهر لي آياتك!
– قالها الرب!
– وفي أي مقهى احتسيتم شاياً وهو يحدثك بهذا؟!!
– ويحك، إن الدين عند الله الإسلام!
– والمسيحية واليهودية والبوذية والزرادشتية؟
– إنهم كفار لعنهم الله!
– لا تنسى أن تذكره وأنتم تحتسون قهوة الغد أن ينزل عليهم لعنته، فإني أراك جزمت بكفرهم ولعنة صديقك الله (عز وجل) عليهم!
أوليس من الممكن أن يكون الاثنان محرفين؟ أو حقيقيين لا تحريف فيهما؟ بل وبشريين لا يد لقوة إلهية فيهما؟ ومن أعطى لتجار الدين الحق في المنع والتحريم والإباحة والعقاب والثواب والجزاء والتكفير…؟
الله أجمل من أن يختزل في شريعة شوهها تجار الدين، اغتصبت باسم السياسة والسلطة والشرف والشرعية والجهاد..
الله أنقى من أن تغزى أرض باسمه وتمحى حضارتها وتاريخها وجمالها، لنسمي هذا الغزو فتحاً مظفراً مكيناً أعزنا الله به..
الله أسمى من أن تلبسوه عمامة المسلم، قلنسوة اليهودي وصليب المسيحي أو أي سجن لذاته النقية داخل تعبيراتكم المريضة..
الله أكبر من أن تنسفوا رسالته حتى تصيروا ألف شعبة حتى لم نعد نعي أنّى تتجسد روح الله الحقة..
الله، كما أعرفه، طاقة ماورائية، عصية على الاختزال في ميكانيكية عبادة أو نفاق معاملة، ابتغاء حسنات عجاف في عالم لا نجزم بوجوده..
الله سمو وجمال وعشق، ليس في حاجة لترهاتكم، هلوساتكم الشاذة، فتاواكم ورؤاكم المريضة..
الله أعظم من أن تستعيروا صوته، ليس أخرس ولا ميتاً حتى يكتري أفواهكم العفنة..
الله أراه كما يراه التبريزي في قواعده : (الله عشق.. فلا قيمة للحياة من دون عشق، لا تسأل نفسك ما نوع العشق الذي تريده، روحي أم مادي، إلهي أم دنيوي، غربي أم شرقي.. فالانقسامات لا تؤدي إلا إلى مزيد من الانقسامات، ليس للعشق تسميات ولا علامات ولا تعاريف..
إنه كما هو، نقي وبسيط..
العشق ماء الحياة والعشيق هو روح من النار!
يصبح الكون مختلفا عندما تعشق النار الماء).
وعلى سبيل الهدم.. وللذين يسألونني دائماً: أنا في شك أزلي!
فأن تدنو من الشك، تلك بداية الحقيقة..
الكثيرون يسألونني: لم أنت هكذا؟ ولم تعتقد بهذا وذاك؟ وهل؟ وكيف؟ ومتى؟
لكن القليل، النزر اليسير منهم فقط، من يؤمن بحقي في الاختلاف.. في التمرد على السائد، واعتناق ما أراه صواباً ويرونه كفراً وشذوذاً عما اعتنقوه ذات انتقال بيولوجي وراثي لمعتقدات لم يكلفوا أنفسهم حتى عناء إخضاعها لمنطق الشك ومنهج التمحيص..
لا شك أن الحقيقة المطلقة الوحيدة هي الموت؛ حيث لا ينكرها ملحد ولا مؤمن ولا عابد بقر! ولكل منا حقائقه الخاصة المتجذرة حد الوثوقية العمياء في أقاصي العقل.. والقلب.. حتى ابن رشد.. الذي يظل تاريخه ومساره محط سؤال، بنى أطروحاته من داخل النص الديني على مفهوم "النظر في الموجودات" دون نصوص الإيمان والثواب والعقاب والغيبيات، لينطلق إلى التأسيس لفلسفة كانت العنصر المفصلي في نشأة نقد ديني يستمد منهجه من المنطق والعقل، وكان بذلك نموذجاً للثورة على قطعية النص وألوهيته..
نفس السؤال يتسلق العقل والحلق كلما فتحت نقاشاً مع مؤمن أو ملحد أو لا ديني.. أفلا تعقلون؟
كيف للفرد أن يتخلى -طواعية – عن حقه (المقدس) في التفكير ليعتنق ما يمكن (وهذه فرضية يجب التدقيق في صحتها) أن يكون نتيجة لممارسة الغير لحقه في التفكير؟
أوليس من دواعي إنسانية الفرد وتفرده عن باقي الفصائل الحيوانية أنه حيوان عاقل، أو مفكر إن صح التعبير؟ فلم هذا التنازل بشكل قطيعي (من القطيع) وطوعي عن أسمى حق يرادف الحق في الوجود أو الحياة؟
أن تجزم بوجود عالم أخروي، وأن تقسم بوجود ثواب وعقاب وحور عين وأنهار من خمر… إلخ دون استحضار لمنطق التشكيك، الذي يستبدل بشكل أساسه خوف لا اختيار، لدليل على أزمة فكر وتفكير، على خلل في الوظائف وفي الكفايات، خلل في نمط تفكير ناجح كرسه الماركتينغ الديني منذ قرون ولم يستطِع الفرد أن يتجاوزه، لا لكونه قاصراً أو عاجزاً، بل لقوة هذا الماركتينغ وغطرسته وغلبته التي أرست قوتها انطلاقاً من منهج تنشئة تخديرية بامتياز..
أقول لمحترفي التكفير والتخوين والأحكام الجاهزة والمتدينين السطحيين: إن كتابة هذه السطور لا يروم مناقشة الإسلام أو التشكيك فيه، بل يتجاوزه للفكر الديني بشكل عام، بما فيه دين البقر والشجر وعبادة الأصنام والفئران والله، انطلاقاً من كون العقيدة واحدة والمعتقد به متغير.. فقط لا غير.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.