يصنع مرهف اللبابيدي أقراص الفلافل مع صلصة الطحينة باللبن وعصير الليمون، منتج بيتيّ يقدّمه للزبائن مباشرة من خيمته في محطة بنزين يونانية تحولت إلى مخيم مؤقت للاجئين على طريق سريع قرب الحدود المقدونية.
التقى اللبابيدي برجل سوري آخر هنا، فافتتحا سوياً محلاً لبيع الخبز، ثم تدريجياً بدأت إضافات الخضراوات والبيتزا والشطائر تدخل إلى قائمة الطعام الذي يحضِّرونه.
يقول: "إننا ككل الشعب السوري لسنا بحاجة لأحد كي يقدم لنا مقترحاتٍ وأفكاراً عن كيف نسترزق"، حسبما أدلى به لموقع بي بي سي البريطاني، الأربعاء 15 يونيو/حزيران 2016.
والعديد من هذه المحلات افتتحت في غضون شهر مايو/أيار 2016 تقريباً عندما أدرك اللاجئون أن إقامتهم هناك ستطول أكثر مما اعتقدوا بادئ الأمر، فخشوا من نفاد ما معهم من مال.
عندما أقفلت مقدونيا أبوابها في مارس/آذار 2016 كان 1000 شخص قد ألفوا الحياة هناك واعتادوها، لكن السلطات بدأت شيئاً فشيئاً تنقلهم إلى مخيمات رسمية، ومع فجر يوم الاثنين 13 يونيو/حزيران 2016 شاع خبرٌ يقول إن المخيم المؤقت سيتم إخلاؤه عن بكرة أبيه.
ارتبك الكل ووقعوا في حيرة من أمرهم، فكثيرون أرادوا البقاء ولم يدروا إلى أين ستكون الوجهة التالية. مُنِح الجميع وقتاً لحزم حاجياتهم ولملمة أغراضهم، ثم صعد أغلبهم بهدوء إلى حافلات متجهة إلى مخيمات رسمية.
أعدادهم في المخيم المؤقت تتناقص تدريجياً على أية حال، لكن لا أحد يعلم السبب يقيناً، والبعض يظن أن اللاجئين استعانوا بمهربين للعبور إلى مقدونيا.
الروح التجارية
رغم أن التبرعات بالمعونات الأساسية كانت تقدم يومياً لهم إلا أن حجمها لم يفِ باحتياجات اللاجئين، ما دفعهم للبحث عن أبواب رزق أخرى يعيلون بها أنفسهم وأهليهم.
وهكذا حال اللبابيدي الذي فر بزوجته وطفليه اللذين أصغرهما ليس إلا رضيع عمره 10 أشهر، هربوا جميعاً من إدلب السورية أواخر فبراير/شباط 2016.
يتناول اللبابيدي هاتفه ليطلعنا على صورٍ يقول إنها صور حديثة من فيسبوك لقصف بلدته، يبدو في الصور مبنى مدمر ورجل مضرجٌ رأسُه بالدم وعيناه مغلقتان.
كان اللبابيدي يملك مقهى في مدينته، ويبدو أن روحه التجارية ساقته إلى اليونان التي أدرك فيها أنه قد يضطر للمكوث لفترة من الزمن وجني بعض المال.
يقول: "كل ما نفعله أننا نحاول أن نعمل ونكسب القوت ليس من أجلنا فقط بل من أجل عيالنا، ولمعلوماتك الطعام هنا رديء".
يستقل الرجل الذي عمره 34 عاماً سيارة أجرة إلى بلدة بوليكاسترو القريبة، حيث يشتري منها أدواته وحاجياته من خضار وفاكهة.
في محله يبيع المشمش بـ2 يورو للكيلو الواحد، فيما 8 أرغفة خبز ثمنها يورو واحد، أما السجائر فسعر علبتها 2 يورو.
نسأله من أين لك السجائر؟ فيأتينا جوابه جاهزاً حاضراً "لا تعليق".
جنة المدخنين
والمنافسة على أشدها بين عدة باعة سجائر نصبوا أكشاكهم في المخيم، أحدهم يبيع بضاعته على نفس الناصية التي تقع فيها خيمة اللبابيدي.
إنه عبدالقادر غافر الذي يجلس وراء منضدة بنية أمامه 11 علبة سجائر. نسأله كيف تسير تجارتك؟ فيجيبنا: "ليس على ما يرام. أجلس هنا من الصباح حتى الليل ولَعَلّي لا أُحَصِّلُ سوى 2 يورو".
ليست التجارة تجارته بل تجارة صديقه، لكن غافر ذا الـ60 عاماً لا يمانع الجلوس وحراسة البضاعة ليل نهار لأن أوجاع رقبته المبرحة أقعدته على كرسي متحرك بالأساس.
التقى غافر بصديقه في اليونان، حيث كان غافر قد أمضى فيها 3 أشهر من بعد مكوثٍ في تركيا طالَ شهرين. كان غافر يعمل خياطاً في دمشق التي غادرها.
يبوح لنا بمصدر سجائره، فيقول إن رجلاً من مقدونيا يزور المخيمات لبيع السجائر لأنها هناك أرخص ثمناً مما في اليونان.
وبيع السجائر أكثر تجارة رائجة في المخيم، حيث تجد 3 باعة آخرين يبيعون ما لديهم من علب سجائر.
وأمام صف من طاولات النزهات حيث يجتمع الكل للاستظلال من الشمس يخبز رجلان سوريان أرغفتهما ويبيعان 6 أرغفة بيورو واحد.
حلاقتك عندنا
وتحت خيمة بالقرب من مدخل محطة الوقود ترى الحلاق محمد راشد (23 عاماً) يقص شعر زبونه العراقي أمام مرآة زهرية اللون بتصميم أميرات ديزني. ينظف حواجب الرجال ويحلق ذقونهم مثابل مبلغ يتراوح بين 3 إلى 4 يورو، لكنه أحياناً يقدم خدمته مجاناً إن قال الزبون إن ماله لا يكفيه.
ومع الانتهاء من الحلاقة يكنس راشد الأرض بمكنسة صنعها من أغصان الشجر.
وليس كل يوم شبيهاً بسابقه، فتارة يصل عدد زبائنه إلى 10، وتارة لا يأتيه غير 3.
راشد سوري من عفرين، يتذمر من أنه عمل شهراً في تركيا دون أن يتقاضى بدل أتعابه، "لا أحد يهتم بنا لأننا لاجئون حتى هناك في تركيا".
لكن عمله الآن وسيلة للوقوف على قدميه من جديد في حياته. "أكسب المال هنا ولهذا أنا مرتاح. أكسب من عملي ولا أحد يعطيني إحساناً بلا مقابل".
في داخل خيمته طاولة وضع عليها شفراته الكهربائية التي حصل عليها في محطة وقود، أما بقية الشفرات والأدوات فمن بوليكاسترو: أمشاط وقارورة رذاذ مثبت للشعر وقارورتا مستحضر مرطب للجسم مع مناديل معطرة رطبة مصنوعة في الأصل لإزالة مساحيق التجميل.
يقف على ساقيه من جديد
وإلى جانب خيمة راشد عامود لمصباح الشارع مربوطة عليه بخيط أسود 8 علب فارغة من البيرة القوية للبيع بمبلغ يورو واحد ونصف. يقول راشد إن تلك التجارة لصديقه الجالس خارجاً الذي يرتدي بنطالاً عسكرياً. التقيا على متن الزورق الذي أقلهما في رحلتهما الخطرة من تركيا إلى اليونان.
ويقول راشد إن المطاف انتهى بصديقه ليتولى هو قيادة الزورق بعدما خاف المهرب وجَبُن على الرحلة في اللحظة الأخيرة.
يريد راشد متابعة العمل في مهنة الحلاقة بعدما يصل إلى ألمانيا التي يأمل أن يستقر فيها ويحضر أمه وأخته، لكن عليه قبل ذلك أن يجد له سبيلاً للوصول إلى هناك.
العديدون هنا حاولوا تجنب الانتقال إلى المخيمات والملاجئ الرسمية التي صنفها المبعوث السامي للأمم المتحدة نفسه على أنها دون المستوى المعياري، لكن هؤلاء في الوقت ذاته لا فرصة لهم بالانتقال إلى مقدونيا.
ومع أن متاجراتهم تلك لا تمنحهم رفاهية ولا ترفاً إلا أنها تغذي آمال هؤلاء اللاجئين جميعاً بحياة كريمة في ربوع الاتحاد الأوروبي؛ لأنها تمكنهم من البقاء فترة أطول في اليونان. إنها بكلمات أخرى وسيلة لهم كي يقفوا على أقدامهم على الأرض التي ضاقت بهم وضاقت معها أرزاقهم.
أما اللبابيدي صاحب محل الفلافل فلا مشكلة لديه في الانتقال إلى أي بلد أو دولة طالما فرص العمل متاوفرة، لكنه لا يرى طائلاً من ذلك في اليونان، حيث فرص العمل غير متوافرة وحيث أطفاله بلا مدارس.
ويختم بالقول: "أينما كنت في اليونان، مكتوب عليك الشقاء".
– هذا الموضوع مترجم بتصرف عن موقع هيئة الإذاعة البريطانية BBC . للاطلاع على المادة الأصلية اضغط هنا.