"أطفالي لم يعرفوا رمضان الذي عرفناه في سنين مضت "تقول أم محمود مسوتي 31 عاماً والمقيمة في بلدة زملكا بريف دمشق لـ"عربي بوست"، مضيفة "أحاول كثيراً تجنب الحديث عن ذكريات الشهر الفضيل أمامهم".
فلا أحاديث عن اجتماعات العائلة الكبيرة حول موائد الإفطار، ولا عن أنواع الطعام والشراب الخاصة بالشهر الكريم، ولا حتى عن كرم هذا الشهر بالذات والذي افتقدناه هنا منذ سنين، هم نشأوا في الحصار فلا ذاكرة لهم إلا الجوع والحاجة وانقطاع الطرق التي كانت كفيلة بجمعهم مع بقية العائلة المقيمة في دمشق على حدّ قولها.
تقول: في كثير من الأحيان لا أملك تفسيرات تناسب تفكيرهم كأطفال، في كل مرة أحاول فيها شرح مغزى الصوم لطفلي محمود والبالغ من العمر ثماني سنوات وكيف أنه لنشعر بإحساس الجائع، فيجيبني بأن نحن من يجب أن يشعر الصائمون بنا، نحن من نكتفي بوجبة واحدة يومياً ونحن فقراء ومحرومو هذه الأرض.
"هو رمضاننا الرابع ضمن الحصار" -تتابع أم محمود- وبالمقارنة بالسنين السابقة هو الأصعب حتى الآن نتيجة الحصار الطويل وسياسة التجويع التي يتبعها النظام سوري بحقنا.
وقالت "بساتين الغوطة التي كانت تطعم دمشق وسكانها وقفت اليوم عاجزة عن تلبيتنا نحن أهلها بعد أن أحرقتها قذائف المدفعية والطائرات، حتى آبار المياه بدأت تشح وتبخل علينا من مائها ناهيك عن الارتفاع المجنون الذي طاول أسعار المواد الأساسية والذي حول أبسط الأشياء كالرز والبرغل إلى ترف قد لا نطاوله لشهور عدّة".
تضحك أم محمود طويلاً بعد سؤالها عن إمكانية توفّر اللحوم أو الفواكه ضمن مائدتها دون أن تجيب.
محاصرون ومشردون
أكثر من نصف مليون سوري جاءهم رمضان هذا العام وهم محاصرون وصائمون في الوقت ذاته.
وهذا سادس رمضان منذ اندلاع الحرب والرابع منذ بدأت قوات النظام السوري والميليشيات الداعمة له بتطبيق سياسات الحصار والتجويع بحق معارضيه في ظل غياب أيّة مؤشرات لحل سياسي أو عسكري يلوح في الأفق.
وتشير مصادر أهلية إلى وجود أكثر من 400 ألف محاصر في الغوطة الشرقية لدمشق، 50 ألفاً في مخيم اليرموك ومنطقة الحجر الأسود، 45 ألفاً في كل من مضايا والزبداني، 40 ألفاً في داريا والمعضية و15 ألفاً في حي الوعر بحمص (أي أن نحو 550 ألفاً محاصرون من قبل النظام).
فيما يقبع ما يزيد عن 20 ألفاً تحت حصار قوات داعش في مركز مدينة دير الزور شمال شرق سوريا والتي تسيطر عليه قوات النظام.
كأس ماء بارد
يمكننا اختصار ما تعانيه الغوطة بثنائية الحصار والتجار بحسب رامز شلة 29 عاماً والمقيم في مدينة حرستا.
وأضاف لـ"عربي بوست" بالتأكيد "لا أنكر الدور الكبير للحصار الذي يفرضه النظام على ما يزيد عن 400 ألف سوري ضمن الغوطة، لكن للتجار أيضاً دور كبير في زيادة معاناة الناس".
فالمواد الغذائية تدخل بشكل شبه مستمر عن طريق صفقات مع الحواجز المحيطة أو عن طريق الأنفاق التي تربط الغوطة بالمناطق المجاورة، لكن -كما يقول شلة- فإن المشكلة الكبرى تكمن في جشع من يتاجر بها، الزيادات المستمرة وغير المبررة للأسعار احتكار اصناف معينة وحتى بيع المساعدات يجعل ممن يتاجر بلقمة الناس، شريكاً للنظام في هذا الحصار.
أما عامر 34 عاماً والمقيم في حي جوبر فيختزل شوقه للشهر الكريم بكأس ماء بارد يقول "بالطبع نحن لا نملك برادات (ثلاجات) أو كهرباء منذ أعوام".
يقول عامر لـ"عربي بوست"، إن محولات الطاقة الشمسية التي لدينا بالكاد تكفي لتشغيل الإضاءة وشحن أجهزة الموبايل، لقد اعتدنا على هذا النوع من الحياة نتيجة الفترة الطويلة التي قضيناها في الحصار، لكن الذكريات دائماً ما تشاغلنا عند سماع صوت آذان المغرب".
إفطارنا بارد في حال وجدناه
محمد الرحال 45 عاماً والمقيم ضمن حي الوعر المحاصر في مدينة حمص يصف لـ"عربي بوست" الأوضاع المعيشية للمحاصرين بالكارثية، حواجز النظام المحيطة تمنع إدخال أية مواد تموينية إلى الحي فيما نحاول العيش ضمن المقومات المتاحة.
وأضاف "نصنع الخبز عن طريق طحن بقايا الخبز اليابس مع بعض الأرز ونزرع شرفاتنا وأسطح منازلنا بالخضار، الكثير منا حوّل إحدى غرف منزله إلى حظيرة للدجاج في محاولة للإكتفاء من مادتي البيض واللحم الأبيض".
لكن اليوم ومع حلول شهر رمضان وبسبب ساعات الصيام الطويلة يصف الرحال الحاجة الحقيقية إلى غذاء جيد يمد أجسادهم بالطاقة الكافية لصيام اليوم التالي.
الحي محروم من إدخال أنابيب الغاز التي تستخدم في المطبخ منذ ما يزيد عن عام لذلك يعتمد القاطنون هناك على التيار الكهربائي الذي يأتيهم لساعة واحدة يومياً في الصباح كوسيلة للطهو وإعداد الطعام، بالطبع هذا يفرض على المحاصرين تناول طعام وجبة الإفطار باردة في حال وجدت وبعد ساعات عديدة من طهوها.
الحصار مستمر وخانق -يتابع محمد- على الرغم من توقيع اتفاق ينص على رفع الحصار عن الحي في شهر كانون الأول/ديسمبر 2015 بحضور ممثلين عن الأمم المتحدة، إلا أن النظام لم يطبق أي من بنود الاتفاق.
وقال "عملياً هناك حاجة حقيقية لتدخل دولي جاد يفرض على النظام إدخال المواد التموينية الضرورية الأدوية وحليب الأطفال على أقل تقدير قبل وقوع كارثة إنسانية تأتي على أرواح وأجساد أكثر من 15 ألف مدني محاصر".
عجز أممي
يان إيغلاند مستشار المبعوث الأممي إلى سوريا صرح في وقت سابق بأن الأمم المتحدة لم تتمكن في شهر أيار/مايو 2016 من إيصال المساعدات إلا إلى 160 ألفاً فقط من السوريين المحاصرين من أصل أكثر من مليون سوري يعيشون تحت خط الفقر في المناطق المحاصرة أو ضمن مناطق خارجة عن سيطرة النظام، إيغلاند والذي وصف الوضع الإنساني الذي تعيشه المناطق المحاصرة بالحرج تماماً.
وقال "إن هناك آلاف الأطفال المهددين بالموت في حال لم تتمكن قوافل الأمم المتحدة من الوصول إليهم في الوقت المناسب".
يذكر أن الأمم المتحدة نجحت أخيراً بإدخال أولى قوافل الإغاثة الإنسانية إلى مدينة داريا بريف دمشق بعد 4 سنوات من الحصار لكنها اقتصرت على مساعدات غير غذائية شملت بعض الأدوية غير جراحية والمنظفات واللقاحات.