في ذكرى ثانوية مولاي الطيب العلوي 1/2

كان النجاح الدراسي بالنسبة لي ضرورة قصوى، فقد كان أبي لا ينفك يشجعني لبذل مجهود أكبر، وكانت نظرة أمي مودعة لي كل صباح، تترك في نفسي عزيمة وإصراراً كبيرين لإفراح قلبها.

عربي بوست
تم النشر: 2016/06/11 الساعة 04:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/06/11 الساعة 04:48 بتوقيت غرينتش

ما زلت أتذكر تلك الفوارق الطبقية والتصنيفات العجيبة لتلاميذ ثانوية مولاي الطيب العلوي بسلا، فمنذ أول يوم خطوت في ساحتها، بدا لي جلياً أن المساواة الاجتماعية والتأقلم في جو متنوع لن يكون أمراً سهلاً بذلك المكان، لن أنكر أن مرحلة الإعدادي اتسمت بتلك الفروقات أيضاً، لكنها لم تكن بنفس القدر؛ حيث إن محاولة إثبات الذات والتمتع بالشعبية تكبر عند الالتحاق بآخر محطة تعليمية قبل الدراسات العليا.

مشواري ابتدأ في 2006، كنت يافعاً مملوءاً بالحيوية وجد متحمس كأي مراهق، ولوج عالم الثانوي بالنسبة لي أضحى حلماً يتحقق، فالثانوية كانت متاخمة لإعدادية سلمان الفارسي، التي تحولت لاحقاً إلى مركز أقسام تحضيرية.

كنت أنا ومن معي من زملاء القسم نمني أنفسنا دائماً باكتشاف ذلك الفضاء المغري، تارة عند رؤية أحد التلاميذ مرتدياً موضة جديدة يتوجه للثانوية، أو آخر رفع عجلة دراجته النارية الأمامية، حركة كان يفعلها التلاميذ لجذب الأنظار واستمالة الفتيات، كانت أغلب تلك الدراجات من نوع "سكوتر"، "سي بي آر، أو "بورغمان" الذي لم يظهر حتى عامي الثاني أو الثالث بالمؤسسة.

تحققت الأمنية، وحان دوري أنا أيضاً لأجرب ذلك الإحساس، أن تكون تلميذاً بالثانوية، لكن الواقع كان صادماً، فالتميز بالشعبية لم يكن يقتصر على مدى لطفك أو مستواك الدراسي، بل إن شعبتك قد تحكم عليك بالنبذ قبل البداية، فقد كان الأدبيون آنذاك مهمشين باعتبارهم أقل قيمة وفقراء نسبياً.. (ههه).

لن أفند ذلك، فالتوزيع المشين يحتمل جزءاً من الصواب، كان أغلب الأدبيين قادمين من أحياء شعبية كحي مولاي إسماعيل، حي الانبعاث، سهب القايد وغيرها، بساطتهم تظهر في لباسهم وطريقة كلامهم، لكن هذا ليس تعميماً ولا ينتقص من إمكانياتهم التمدرسية شيئاً، أريد فقط الإشارة لتلك المفارقات العجيبة والقوانين التي لا أعرف من سنها بالأساس، فقد كانت موجودة بالفعل قبل أن ألج الفصل.

الأذكياء، أو العلميون الذين كنت أحقد على بعضهم كانوا المحببين للإدارة والأوسع شهرة في صفوف التلاميذ، فلا يمكن أن تقارن القسم الذي تدرس فيه "بنت المعيدة" و"ابن الدبلوماسي" بذلك الذي يدرس فيه تلميذ مشاغب، يتناول "المعجون"، وآخر يشتغل قاطع طريق بعد نهاية ساعات الدراسة.

لكي تكون فريداً ومرغوباً به في ذلك المشفى، نعم فقد كانت تترافد الحكايات حول كون الثانوية مصحة نفسية في القديم لما وضع من أسيجة حديدية على نوافذها، وكذلك بناؤها لا يتجاوز الطبقة الأولى، بل إن جل القاعات كانت تتواجد بالطابق الأرضي!

كان لزاماً أن تترك بصمتك في أحد المجالات، فبعض تلاميذ شعبة العلوم الرياضية عرفوا بالتفوق، وكنت تراهم محاطين بالبنات عند الفسحة رقم بشاعة بعضهم، فالتلميذة تهمها النقطة ومن يشرح لها فقط، ولا تمانع تملق ذاك الذي يمضي الساعات الطوال أمام الكراسة، ومناه الأسمى في الحياة الاجتماعية أن تقول له أنثى مرحباً.
أما ثلة أخرى، فكانوا "أغنياء الثانوية" هذا يأتي في دراجة تفوق سيارة الأستاذ ثمناً، وآخر يلبس حلة لكل يوم، كأن أباه يملك مصنعاً للملابس، وأخرى يوصلها أبوها على متن سيارة "رونو فليونس" سوداء التي كانت ذائعة الصيت حينئذ.

سبحان الله، حتى في الحصص البينية الفارغة، كنت ترى التلاميذ يتحومون حول عازفي القيثار، وآخرين يطلبون إفطاراً صباحياً في بطانة، فالميسورون تلقاهم عند المحلبة واقفين والأكثر يسراً لا يبارحون الثانوية، فهناك مقصف هناك، لكن ثمنه مرتفع، أما المعوزون فيجرون الخطى إلى بائع "الكارونتيكا" الذي استقر مع عربته بمرأب قديم، يتوافد عليه الزبائن من أغلب المدارس المجاورة، أكله يشبع والأداء يكاد لا يضر الجيب.

لم ترق لي "الكارونتيكا" كثيراً، فقد كانت تسبب لي حساسية جلدية، ربما البيض المستعمل فيها فاسد، أو هي مناعتي لم تستطِع عليها صبراً؛ لذلك فضلت في معظم الأوقات البقاء في ساحة الرياضة أتأمل لاعبي الكرة، بعضهم عرف بإجادة اللعبة، وكانت فرق الأقسام تسارع في دعوتهم للعب معها عند اقتراب الدوري.
وأنا جالس هناك، كنت أتخيل نفسي معروفاً أيضاً، تتلقفني الأنظار وتتهافت علي هذه وتلك، قبل أن يدق جرس انتهاء الاستراحة وأعود للواقع الملموس.

كان النجاح الدراسي بالنسبة لي ضرورة قصوى، فقد كان أبي لا ينفك يشجعني لبذل مجهود أكبر، وكانت نظرة أمي مودعة لي كل صباح، تترك في نفسي عزيمة وإصراراً كبيرين لإفراح قلبها.

الثانوية لم تكن بالجوار، المشي إليها كان يستغرق نصف ساعة من الزمن، ولأن جدول الحصص الأسبوعية مملوء غالباً، كنا نقضي إجمالياً يومياً ما يصل إلى ساعتين من السير ذهاباً وإياباً، لم تنَل أبداً من شغفي بالدراسة، لكني كنت أكره مشقة فصل الشتاء؛ وحل في السبيل، وضايات ماء تغسلك بها كل مركبة تمر قرب الرصيف.

كثيراً ما كنت أصل مبلولاً، جبيني قد ندى، ولباسي تكاد لا تجد فيه بقعة لم يطَلها المطر، كنت أترك المعطف ليجف، فهو الأكثر امتصاصاً، والأثقل حملاً، وحين أرتجف برداً أسارع إلى لبسه تارة أخرى، فالأقسام كانت غير مكيفة، وبعض الأسقف غلبت عليها الرطوبة، وعندما تقطر، يتغير شكل ترتيب الطاولات، فتصبح عشوائية المنظر.

شهر رمضان الذي كان يصادف دائماً شهور الدراسة الأولى، كان يحظى آنذاك باهتمام عظيم، ساعات الدراسة تتقلص، وأشكال المرح والمتعة تتناسل، فهذه مجموعة تلعب الورق تحت مسمى "الحكيم"، وأخرى توارت خلف سور الثانوية لاهثة وراء أحد عازفي القيثار أو صانعي الفرجة ممن يحكون النكت، أما النشاط الذي لطالما أعجب به التلاميذ فكان دوري كرة القدم الذي تنطلق مبارياته بعد نهاية آخر حصة مسائية.

كنت أفضل الذهاب إلى المنزل لمشاهدة التلفاز والاسترخاء، وإعداد تمارين اليوم الموالي، ولأن المسيرة إلى المنزل مضنية، فقد توقفت عن أخذ المطابع معي إلى حجرات الدرس إلا لضرورة قصوى، فبعض الأساتذة يشترطون وجود كتابين فوق الطاولة، وغالباً ما كنت أتفق مع زميلي على تبادل الأدوار في جلب الكتاب اللعين، عندما يتعلق الأمر بمادة يغنينا شرح الأستاذ عما يوجد في الكتاب لفهمها، ورغم عدم صحة نظريتنا، كانت حجة لتخفيف ثقل حقيبة الظهر المتخمة بالدفاتر، والتي يزداد ضغطها على الأكتاف عندما يتخلل اليوم حصة رياضة.
(يُتبَع)..

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد