يغرق العالم بالسواد، بينما يخطو اللاجئون الفارّون من جحيم الحروب أولى خطواتهم، مبتعدين عن أوطانهم، هذه المرة لم يكن سبب النزوح العيش الكريم أو الرغبة في مستقبل أفضل، وإنما الرغبة في البقاء على قيد الحياة، حياة وإن كانت دون شروطها الدنيا كالكرامة والحرية، إلا أنها تبقى حياة تستحق التمسك بها.
الآلاف وعلى مرأى ومسمع من العالم، الذي كان سبباً من أسباب مأساتهم، اتجهوا للفرار بحراً، ولو بدا الأمر كمن يفر من موت مؤكد بالصواريخ والبراميل، إلى موت محتمل غرقاً وبرداً وجوعاً، لكن المحاولة تستحق العناء، خصوصاً مع ما آلت إليه الأمور، خاصةً في سوريا.
وكما هو الحال دائماً في هذا العالم، فإن مآسي الهجرة لم تعد تثير الكثير من التعاطف، فالعالم الذي ذرف الدموع على ضحايا الحرب في سوريا في البداية، تناساهم مع مرور الوقت، وها هو يكرر نفس التجربة مع ضحايا الهجرة، الذين تحولوا إلى مجرد أرقام يتم تداولها عبر شاشات الأخبار دون أدنى تعاطف، ودون أن يقدم ساسة العالم حلولاً أو مقترحات للملمة المأساة المتفاقمة، بل إن الوقاحة بلغت حد تقديم الدعم بشكل مباشر أو عبر غض الطرف عمَّن تسبب في هذه الكارثة، فالعالم الذي تباكى عندما رأى جثة "إيلان" على شواطئ البحر، هو نفسه من يَدَع بشار ويغض الطرف عنه.
يغرق اللاجئون من مختلف الجنسيات، قاسمهم المشترك أوطان تبعثرت حروفها، فأصبحت عصيَّة عن النطق ناهيك عن العيش، وعالم صم آذانه عن سماع صراخهم، يغرقون ويغرق معهم ما تبقى من أمل في عدالة المجتمع الدولي، رائحة الجثث على سواحل المتوسط تزكم الأنوف لا يفوقها تعفناً سوى ضمائر غائبة، لطالما تشدقت بدعم الحرية والوقوف بجانب الشعوب المظلومة؛ ليتضح أن تجارة الشعارات أكثر ربحاً من تنفيذها، ولتسقط ورقة التوت عن الجميع، ونصبح أمام الضمير عارياً من كل ما يجعله يستحق لقب ضمير.
العالم أصبح أقل نفاقاً وأكثر وضوحاً، لم تعد لعبة إقناع الآخرين بالدفاع عن القيم الإنسانية مجدية، وظهر وجه المصالح القبيح بشكل جلي، ولم يعد هناك داعٍ للعب أكثر على وتر الدفاع عن حرية الشعوب أو حتى عن إنسانيتها، شاهدنا بعد سنوات من قيام نظام "الأسد" بحرق سوريا وتهجير السوريين كيف كافأه العالم، وكيف تناسى العالم جثث آلاف القتلى داخل سوريا وآلاف غيرهم على شواطئ البحر، وتذكر فقط أن "الأسد" أفضل من التيارات الأخرى التي تريد أن تكون بديلاً له، لكنه لم يكن صريحاً لدرجة أن يخبرنا من أي ناحية هو هذا النظام أفضل، يجب أن نشعر جميعاً بالعار ونحن نرى إنسانيتنا تمر بامتحان صعب وتفشل في تجاوزه.
الدول التي أقفلت حدودها دون اللاجئين، أو التي سكتت عن معاناتهم، وخاصة الدول العظمى والقوى الإقليمية التي تواطأت، أو في أحسن الأحوال اتخذت موقفاً رمادياً مما يجري في سوريا، أرسلت بذلك رسائل طمأنة لكل أنظمة القمع في العالم العربي، مفادها حافظ على مصالحنا وافعل ما شئت، وأعطت القاتل رخصة للقتل دون حسيب أو رقيب، لكنها في الوقت نفسه أعطت صفعة قوية لمن كان في نفوسهم بقية من أمل في العدالة الدولية، وأعطت ألف سبب لمئات الشباب للجنوح نحو التطرف.
ليس معلوماً ما هو الثمن المطلوب ليستيقظ الضمير الإنساني، هذا إن كان سيستيقظ أصلاً، لكن حفلة الجنون التي تجتاح الشام، والتي نرى آخر فصولها في حلب، جعلت العالم يقف متجرداً من إنسانيته، ما أقبح البشر حين يفتقدون الإنسانية!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.