تلوُّن البشرة والعينين، أو طول القامة وقصرها، أو اختلاف اللغات واللهجات عبر القارات وخلف الحدود، لم يكن يوماً مقياساً لإنسانية الفرد من عدمها، أو معياراً نلجأ إليه لإبداء آراء عشوائية في الغير، ولا دلائل تخول لنا أن نُنصِّب أنفسنا قضاة، ونستند إليها كلما أردنا إصدار حكم على أحد سكان هذا العالم.
ربما كان اختلاف المظاهر فقط لمتعة العين، وليس سوى ذلك، ونتاجاً للعديد من النزوحات القديمة، والزيجات المختلطة، وتجانس بعض الحضارات والثقافات، مما ولد تبايناً جميلاً، كتشكيلة ورود الربيع في حقل عبقٍ أفْيحَ. فما كان ذلك إلا لنعيش الهدف من خلقنا، وهو التعارف والتعاون والتلاحم، وليس لخلق الحروب والصراعات بأنواعها، الدامية والباردة، وزد على ذلك كل أنواع التعصب والتطرف والميز العنصري، واضطهاد الضعفاء، واستخدام العنف الجسدي أو المعنوي، ومفردات كثيرة خلقها البشري المفتقر لمعاني الإنسانية السامية، فكانت كل مظاهر القلق والخوف والاضطراب والعديد من المشاعر السلبية، نتاجاً حتمياً لما سبق، وإخفاقاً ساحقاً حققه بغباء، ليعيش تداعياته بكل خضوع وذل، وهو الذي خُلق عزيزاً ونُصِّب خليفة الله على أرضه، مند بدء الخلق والزمان.
وعجبي لمَلكٍ جبان يتخلى عن عرشه باختياره وبكل استسلام، وعزة الملك في دفاعه عن تاجه باستماتة حتى آخر رمق، وإلا فما استحق جلال التنصيب يوماً، وما حقَّ له المُلك إلا اصطلاحاً، وهو يشبه الإنسان الذي يتخلى عن إنسانيته بدون اكتراث.
مهما تباين الشَّعر بين نعومة وخشونة، وبريق العينين بين خضرة وزرقة وسواد، ومهما تحرك اللسان بلغات العالم، فالقلب ينبض حمرة، والعروق تنضح دماً، والأرواح الصافية تسري بنقاء وسمو، لا يهمها مكان ولا زمان ولا أرض ولا سماء، يكفيها فخراً أن حاملها إنسان.
علينا أن نخجل من أنفسنا حين نطالب بحقوق الإنسان في زمن يحكم فيه الإنسان، فكنا كمن يطلب شيئاً يملكه لنفسه من نفسه.. وكان ذلك بمثابة الجنون الصريح، وللأسف ما زلنا لم نُفَعِّل إدراكاتنا، ولم نتمكن بعد من الاستفاقة من كابوس طويل رافقنا طيلة غطِّنا في نومنا العميق، ونحن الإخوة في الدين والجنس واللغة والقومية، بل الإخوة في الإنسانية التي تجمعنا مهما فرقتنا البقاع والحدود، وتعصبنا لميولنا المصطنعة، والمفبركة، لا يزيدنا إلى دماراً وخراباً، وفرقة واغتراباً، لتجد أكثرنا يعيش غريباً يتضور وحدة وألماً، بين أهله وفي بلاده، وفي عالمه.
لن يضيرنا أن نراجع حسابات أنفسنا، بحياد وعقلانية، دون ميول فكري أو عقائدي أو طائفي أو سياسي أو أو… ولن ينتقص منا شيئاً أن نتقن تقبل الآخر كإنسان، يشاركنا عالمنا وأنفاسنا، ويشبهنا لأنه إنسان، ولن نحقق الرقي ما دام بعضنا ما زال يؤمن بالعبودية بعد كل هذا الزمان، ويظن أن بعض البلدان ما زالت تعيش في الخلاء، ويحتقر كل من خالفه أو ناقشه أو سأله معروفاً، ولن نستشعر ذلك السلام المنشود الذي نبحث عنه، إلا إذا حاول كل واحد منا أن يشكله من روحه بكل حب، وينسجه بخيوط قلب ذهبي سليم ينبض دفئاً وسلاماً، ثم نترك أحلامنا تسمو باطمئنان وتنسجم فوق سماءاتنا، لتهطل حبا وصفاء.
عيبنا كبشر أننا نتقن إلصاق التهم بالآخرين، ونتفنن في تبرئة الذات ولو أخطأت، ولو كنا ملائكة كما نزعم، فمن الشيطان الذي يوسوس في صدورنا، ويقلق راحتنا، ونحن نرى اليوم أن الصراعات والخلافات أصبحت أكثر تنوعاً وتجزؤاً، بما أنها صارت تحتدم بين أفراد البلد الواحد والدين نفسه، حتى شابهت الخلايا في انقساماتها الاختزالية المتتالية، وخوفي من أن أستفيق يوماً، لأجد أن كل واحد منا أصبح يمثل نفسه فقط، وتتعدد أحزابنا وميولنا وطوائفنا لتصبح بعدد سكان الأرض.
لم يفُت الأوان بعد لتدارك أنفسنا، ونفض الغبار عن عقولنا المركونة لسنوات في حقيبة الماضي، وتدفئة قلوبنا التي ماتت من فرط برودة الأحاسيس التي تنبعث منها، فلربما كنا الجيل الذهبي الذي سيفهم أخيراً معنى الحياة، ويدرك أنه مهما فرقتنا الحدود والقارات، فالإنسانية تجمعنا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.