الخبيئة

في ظل أن الكثيرين صاروا يتسابقون للبرّ والإحسان دونما مراعاة لأن تكون خالصة لوجه الله تعالى، خالية من أية شوائب تفقدها الأجر والبركة، ولعلّ شهر رمضان المبارك الآن فرصة جليلة لإعادة استحضار هذه القيمة الإنسانية النبيلة والسنّة النبوية الشريفة (الخبيئة) في العطايا والمساعدات.

عربي بوست
تم النشر: 2016/06/09 الساعة 04:09 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/06/09 الساعة 04:09 بتوقيت غرينتش

هي من السنن العظيمة التي باتت شبه منسية في زماننا الحاضر، وتراجع الاهتمام بتطبيقها رغم الحثّ والتوجيه النبوي الكريم بشأنها؛ حيث قال سيد البشر صلى الله عليه وسلم: "من استطاع منكم أن يكون له خبء من عمل صالح فليفعل".

والخبء في اللغة هي مفرد خبايا، وهي مؤنث خبيء، ومعناها: شيء مستور أو مخفي. ويُقال خبايا الأرض: أي كنوزها أو معادنها وما في بطنها من موارد. وخبايا القلب: ما يكنّه من مشاعر وأحاسيس. وخبايا النفوس: أسرارها وخفاياها وأعماقها. وحينما تكون في عموم الأعمال الصالحة فهي أدعى للصدق والإخلاص، وإذا كانت عنواناً أو إطاراً للبذل والعطاء في مساعدة المعوزين والفقراء فتُسمى صدقة السر التي جاء ذكرها في الحديث الشريف المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله، وذكر منهم: "ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لم تعلم يمينه ما تنفق شماله".

ويُروى في قصص البرّ والإحسان من السجلات الناصعة البياض في تاريخنا أنه لمّا توفي زين العابدين علي بن الحسين، ووُضع على لوح الغسل وجد المغسّلون في أكتافه ندوباً سوداء، فتفكروا! مم أتت هذه الندوب في ظهر هذا الرجل الصالح؟ واكتشفوا الأمر بعد ذلك، لقد كان هذا العابد يستتر بظلمة الليل وحلكة الظلام ينقل أكياس الطعام إلى أسر فقيرة لا يدرون من الذي كان يأتيهم بها، عرفوا صاحبها بعدما مات، فانقطعت تلك الصلة من الطعام، وكانت تلك الندوب من أثر حمل تلك الأكياس على ظهره! فما الذي كان يحمل زين العابدين على أن يتوارى بعمل الخير ويستتر به سوى هذه الخبيئة التي كان يحرص على تحقيقها ونيل ثوابها.

ويحكي آباؤنا وأمهاتنا أنه في زمانهم وأيامهم الجميلة كان أغلب المحسنين لا يكشفون عن شخصيتهم ولا يعلنون عن عطيّتهم، كانوا يتنافسون في تفريج كرب المحتاجين ورفع عوزهم، لكنهم يجعلون ذلك سرّاً بينهم وبين خالقهم، لا يطّلع عليه أو يعرف بجميل إحسانهم غير المولى عز وجل. كان أحدهم يطرق باب الفقير أو المحتاج ويضع أمام الباب أموالاً أو مواد غذائية تسدّ حاجة أهله وأبنائه ثم يختفي بسرعة عن الأنظار قبل أن يفتح صاحب البيت بابه فيجد هذه المساعدات من دون أن يرى أي أثر لصاحبها الذي آثر أن تكون مثل هذه المساعدات (خبيئة) له عند ربّه سبحانه وتعالى.

غير أنه جرت فيما بعد في النهر مياه كثيرة، وتلاشت هذه الخبايا، بل ظهر -على ما يبدو- عكسها تماماً؛ صار لا يتردد بعض محسني وفاعلي الخير في هذه الأيام حتى عن التصوير بالقرب من مساعداتهم وعطاياهم وإقامة مهرجانات عنها ونشرها في مختلف وسائل الإعلام، وأن يكون تقديم هذه الإعانات كالاحتفالية! تُقام أمام العدسات والأضواء طمعاً في الـ(الشو) الذي تكون أغراضه للوجاهة والرياء، بل ربما صار الإعلان في كثير من الأحيان عن صاحب العطيّة أهم من المساعدة نفسها، الأمر الذي يفقد الأعمال الخيرية قيمتها ويقلل من احترام صاحبها وينتهك تعفف محتاجيها، ويجعلها منزوعة الأجر والثواب، ويقلّ معها بركتها ونفعها لمستحقيها ويضيع فوق ذلك على صاحبها أجر (الخبيئة).

في ظل أن الكثيرين صاروا يتسابقون للبرّ والإحسان دونما مراعاة لأن تكون خالصة لوجه الله تعالى، خالية من أية شوائب تفقدها الأجر والبركة، ولعلّ شهر رمضان المبارك الآن فرصة جليلة لإعادة استحضار هذه القيمة الإنسانية النبيلة والسنّة النبوية الشريفة (الخبيئة) في العطايا والمساعدات.

سانحة:
يقول المولى عز وجل في فضل صدقة السّر: (إِنْ تُبْدوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِي وإِنْ تُخفُوها وتُؤْتوها الفُقَراءَ فهُوَ خَيْرٌ لَكُم).

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد