لم أتصور و انا في اكثر لحظات خيالي جنوحا أن يصل الحال الي ما نعيشه في سيناء هذه الأيام ؛ كانت ثورة الخامس و العشرين من يناير حلما ظننا أنه سيعبر بنا نحو مستقبل أفضل يخرجنا من صراعات دولة مركزية بيروقراطية سحقتنا كأحد أطرافها ؛ لكن ما عشناه في كنف دولة يوليو بأشكالها المختلفة لا يقارن بأي حال من الأحوال بما نحياه واقعا الآن .
لم يعد للحياة طعم ؛ اصبحت أيامها كلها سواء ؛ أصبحنا نميز بين الأيام بعدد الجثث او عدد ساعات القصف ؛ حتي شهر رمضان المعظم بأجوائه المختلفة لم يعد بإمكاننا عيشه كباقي المسلمين في أرجاء العالم، نحن أهالي سيناء.
من أين تأتي الفرحة ومائدة الإفطار المتواضعة ستذكر اصحابها بمن اختطفته منهم الحرب شهيدًا أو معتقلا أو مختفي قسريا. وكيف لهم الفرحة وقد حرموا من صلاة التراويح في المساجد في شرق سيناء دون أن يسمعون صوت الرصاص أو التفجيرات، يحرم صغيرهم من أب أو أخ أو جد كان يصطحبه لشراء الفانوس أو بعض الألعاب من "الشوادر" التي كانت تنصب لعرض بضائع رمضان، فحظر التجول المفروض علي مدينتي رفح والشيخ زويد لأكثر من ثلاث أعوام قضى على كل بهجة.
أمنيات أهالي سيناء الآن استنشاق "الهوا اللي بيرد الروح" في البيارة، أو الجلوس مع الأحبة على سفرة إفطار بها طعام بدوي أو حليب النوق والتمر، يتمنون اقتناص وقت قليل لشرب فنجان القهوة معد على نيران حطب "الرتم"، لكن الحقيقة أن الناجون من الرجال منهم يقضون رمضان هذا العام في الشتات، بعدما كانت جمع "العائلة الكبيرة" و الافطارات في "المجاعد و الدواوين" من أهم ما يميز القبائل في سيناء، اضحت قلوبهم موزعة ما بين وجع على ابن أو زوج أو شقيق معتقل أو مختفي أو مطارد، الكثير منهم لا يعلم لقريبه أي مصير.
العروس .. تحرم من رمضان الأول مع زوجها
حدثتني أختي عن صديقتها عبير الفتاة السيناوية ذات الثلاثة عشر عامًا، فقدت عبير أبيها وشقيقتها الرضيعة وزوجة أبيها في رمضان (2013) ؛ قضى الثلاثة في قصف لطائرة الأباتشي المصرية، حل رمضان في العام التالي (2014) وقبل أن يتسنى للفتاة عيش الذكريات الأليمة اعتقل شقيقها في أحد الحملات العسكرية للجيش المصري وأخفي قسريًا.
لم تقف معاناة عبير هنا، إذ انتقلت مع والدتها وشقيقها ذو العشر سنوات الي حي الترابين في مدينة الشيخ زويد، وهناك تعرض الحي لقصف عشوائي في ابريل (أيار) الماضي فاضطرت العائلة للنزوح مع العشرات من أهالي الحي.
تزوجت عبير قبل فترة، وبينما كانت تحلم بأن يعوضها زوجها الأمان الذي فقدته، استشهد زوجها منذ أيام ؛ كان هذا الزوج بالنسبة لها بصيص الأمل بعد فقدان والدها وشقيقها، تقول إحدى قريباتها : "كانت تترقب أول رمضان تقضيه مع زوجها بفارغ الصبر ولكن قتل زوجها بعد مرور خمسة عشر يوم علي زفافها في قصف للجيش المصري خلال حملة حق الشهيد الثالثة ليأتي عليها رمضان أرملة شابة لم تتجاوز السادسة عشر تقضيه بين ألم نزوحها هي وأسرتها وحياة الشتات وألم فراق زوجها".
الفقر يستفحل، وانعدام العمل الخيري
امرأة بدوية في العقد الخامس من عمرها ، من سكان المرحلة الثالثة في رفح، منذ بضعة شهور أخلت السيدة منزلها و قامت بخلع الابواب و الشبابيك و انتقلت للسكن في مكان متواضع، وذلك لأن الجيش أخبرها بأن منزلها سيهدم و سيتم تعويضها؛ و حتى الآن لم يهدم بيتها و لم يتم تعويضها.
أم فريح خلال العمل 1
سيحل رمضان هذا العام على السيدة التي تكني بـ"أم فريح" وهي نازحة عن بيتها، لكن لا يوجع قلبها ترك منزلها وتشردها إذ أضني قلبها اعتقال أحد أبنائها الثلاثة كما روت لي، وتضيف: "اعتقل ابني الأكبر عندما خرج للعمل في الإسماعيلية، حسرتي كبيرة عليه، فلا أعرف مصيره".
قاومت هذه المرأة حالها اليائس وحاولت أن لا تجلس في انتظار أن يعطيها أحد لقمة "تقيم صلبها"، قررت أن تعول أبنائها، لذلك فهي تذهب في كل صباح للعمل في جمع خردة الحديد في المنطقة العازلة علي الحدود مع قطاع غزة، وعليها أن تستأذن من مجندي الجيش كي يسمحوا لها بجمع خردة الحديد من المناطق التي تم إخلائها وتجريفها في رفح.
مشهد أم فريح لا يقتصر عليها، فعدد الأسر الفقيرة التي تركت فيها المرأة وحيدة تعاني المر لجلب لقمة عيشها وصغارها كبير، فقد انقطع الدعم من الجمعيات الخيرية في هذا الشهر المبارك، لكون العديد من المؤسسات التي كانت مصدر للحياة لكثير من البيوت أغلقت أو اعتقل العاملين فيها علي خلفية أعمالهم الخيرية.
ذكرتني هذه المأساة بحديث الحاجة أم مصطفي -55 عامًا من سكان مدينة العريش ؛ أتحدث الي ام مصطفي هاتفيا من وقت الي الآخر فبيننا عيش و ملح و معرفة قديمة ؛ في كل مرة اتحدث اليها تبكي و لا تستطيع كبح جماح شجونها عندما يأتي ذكر صديقي أحمد -شاب في أواخر العشرينات من العمر و المعتقل منذ عامين تقريبا – كان أحمد يعمل متطوعًا في إحدى الجمعيات الخيرية بمدينة العريش و التي تم اغلاقها عقب الانقلاب العسكري في يوليو 2013، قربه عمله هذا من الأيتام والفقراء، فكان يقدم الكفالات الشهرية لهم، اليوم ستفتقده كثيرًا الحاجة أم مصطفي ؛ فقد كان لا يمر شهر رمضان إلا و تجده يطرق بابها فيغنيها عن بسط يدها للناس، قالت و صوتها يخنقه العبرات: "من الذي سيتذكرني الآن و قد بات من يذكرنا سجينا في مقبرة العازولي".
النزوح من رفح إلى العريش
تروي لي مريم معاناتها بعيدا عن رفح التي أحبتها كثيرًا، ستقضى مريم – 25 عامًا- شهر رمضان نازحة عن بيتها، الآن ستقضى رمضان وهي تشتاق لكل أجوائه البسيطة في رفح، لجلسة صفا مع حماتها بعد العصر في (البيارة)، لفرحة صغارها وهم يلهون في ساحة البيت بالدراجة، لعمل فطير الصاج على الحطب، للمة الأحبة على طبق حلوى صنع في البيت.
حنين مريم وزوجها وعائلتها كبير إلى رفح، فمنذ ما يقارب العامين وهي مضطرة للعيش في العريش، تتوق إلى العودة لكن لا مجال، تقول : "رفح والله جنة، حسبي الله ونعم وكيل على من دمرها"، وتضيف : "الروابط العائلية أفضل ما يميز رفح، الناس تأكل وتشرب مع بعضها البعض دون أي فرقة، أيّ نعم هناك ناس فقيرة وتعيش بالقليل إلا أن التكافل الاجتماعي يخفف من وطأة المعاناة خاصة في شهر رمضان".
تقول المرأة التي انتهت لتوها من الاتصال مع بعض جارتها في رفح للمعايدة بقدوم رمضان :"معظم البيوت لا يوجد فيها رجال، هرب اكثرهم خوفا من الاعتقال العشوائي، لا يوجد غير النساء اللواتي آثرن البقاء"، تصمت السيدة قليلا ثم تقول : "يعيشون في رعب، كنت أري (العيل) ابن التاسعة أو العاشرة من العمر يهرب من الجيش، وكان الجيش يتفاخر بأنه لا يوجد رجل واحد في رفح".
طفولة تُحرم من اللهو بـ"الفانوس"
علي الطفلة هالة ذات العشرة سنوات أن تباشر رحلة قاسية من العلاج في الأيام الأولي لشهر رمضان، عليها الاستمرار في الخضوع لعمليات جراحية، فإصابة حرجة نالت من عينها أثناء قصف منزلها من قبل الجيش المصري في فبراير الماضي. لقد اخترقت الشظايا عينها.
هالة التي تعيش الآن في بيت شقيقتها بعد أن هدم منزلها لديها شقيقة اسمها دعاء -11 عامًا-، نعود بالذكريات مع دعاء عن رمضان الفائت فتقول : "كان هناك عمليات كثيرة، وكنا نخاف من القصف، لكن رمضان هذا جلبت لي أختي فانوس وآخر لهالة وسنلعب بهماداخل البيت، أنا أحب أن أصوم وألعب في الفانوس وأصلي مع أمي".
حكاية هالة ودعاء هينة بالنسبة لما يعيشه الأطفال في سيناء، إذ أنه حتى مايو (أيار) الماضي تسجل الأرقام مقتل أكثر من 86 طفلاً ، وإصابة العشرات منهم، ناهيك عن أن المئات من أطفال سيناء فقدوا آباءهم وأمهاتهم، الغالبية من هؤلاء يعيشون الآن في بيت جماعي أو "عشة" من الخوص بسبب قصف بيوتهم أو استشهاد والدهم أو اعتقاله أو اختفائه القسري أو مطاردته، يشاركون أمهم الأرملة أوالنازحة العيش في عشة بدون زوج ولا أب أو أخ.
لا أعلم ان كان قلمي قد ساعدني في تصوير بعضا مما نعاني ؛ لقد أضحت أحلامنا اليوم لا تعدو النجاة من الموت المحتم , أو كسرة خبز تسد قسوة الجوع , أو وطنا آمنا ينسينا ما استطاع جنون الحرب التي عشناها .
لم يعد في قاموسنا مكانا لتلك الأحلام التي كانت تتراقص في خيالنا , عن المستقبل والنجاح والفرح والسرور ؛ فلم يعد لشيء يمر بنا قيمة أو معنى , لم يعد لشهر رمضان حين يأتي رونقه وسحره ولكننا سنقاتل لنعيش ليوم يحمل اسم العيد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.