يوم قال الثعلب للغراب.. صباحك عسل “الفنكوش” وصل!

الإعلان لا يعدو أن يكون انعكاساً للاستراتيجية التسويقية، التي تأخذ من الشركات المنتجة وقتاً وجهداً مهمين قصد دراسة كل الجوانب المتعلقة بسلوك المستهلك، وكذلك محاولة توقع ردة فعله إزاء المنتج. إضافة إلى بحث قدرة الإعلان على إقناع المتسوق، لكي يتحقق في الأخير الهدف الكبير وراء كل هذه المجهودات وهو التقاط الجبن من منقار الغراب، عفواً، التقاط الثمن من جيوب المستهلكين بأقصر الطرق المتاحة.

عربي بوست
تم النشر: 2016/06/05 الساعة 04:37 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/06/05 الساعة 04:37 بتوقيت غرينتش

لا شك أنك سمعت حتماً عن قصة الثعلب والغراب، لكن لا بأس أن أعيد سردها عليك مرة أخرى. حينما حصل الغراب على قطعة جبن لذيذة، حلّق بها عالياً ليستريح فوق أحد الأغصان العالية، لكن وقبل أن يبدأ في التهامها، كان الثعلب الداهية قد حضّر خطته الماكرة للاستيلاء على قطعة الجبن..

وقف الثعلب قرب الشجرة مناديا الغراب ومادحاً صوته بأحسن الأوصاف حتى خيل للطائر أنه بلبل صداح، رغم أنه يعلم مدى قبح صوته. هنا تيقن الثعلب من نجاح خطته ليطلب من الغراب الغناء بإلحاح شديد، وما إن فتح منقاره حتى سقطت قطعة الجبن في مرمى الثعلب الماكر.

قصة أخرى كانت محور فيلم مصري، بعنوان "الفنكوش"، والذي تتمحور قصته حول منتوج خيالي، رصد له أحد المعلنين حملة إعلانية ضخمة، دون أن يكون له وجود على أرض الواقع. الوصلة الإشهارية تقول: "صباحك عسل.. الفنكوش وصل". ومنذ ذاك وملوك خفة الدم المصريين، كعادتهم، لم يفوتوا الفرصة ليدخلوا كلمة الفنكوش إلى قاموس الفكاهة والسخرية عنواناً لأي إنجاز أو منتوج وهمي.

بالنسبة إليّ، هاتان القصتان تلخصان وباختصار شديد لعبة الإعلان. فالمعلن يلعب دور الثعلب في واقعنا، يستغل حاجيات نفسية لدى المستهلك الذي يلعب دور الغراب المغلوب على أمره في أحيان كثيرة. فكم مرة اشترينا منتوجات لسنا في حاجة إليها إلا أننا استسلمنا للعبة الثعلب والغراب. وكم مرة صدقنا وعود المنتجين في الحصول على حياة أفضل لنتفاجأ بزيف الوعود وأنها مجرد فنكوش جديد.

ألم تستغرب عزيزي القارئ من إعلانات الماركات العالمية للمشروبات الغازية، التي تتمحور جل مضامينها حول السعادة والفرح والنشوة والانتعاش. وعود لا أدري إن كان من منتوج يستطيع الوفاء بها سوى بعض أنواع المنشطات والممنوعات! إعلانات هذه المنتوجات تحاول صناعة صورة جميلة وهالة من الشاعرية حول منتوج لا يعدو أن يكون مجرد مياه محلاة بكميات كبيرة من السكر، لافتاً الأنظار عن مخاطر صحية محتملة.

وما رأيك في محلات الوجبات السريعة، الكل يعلم مدى تأثيرها على الصحة بسبب كميات الدهنيات والسكريات. لكن رغم ذلك تتفاجأ بطوابير طويلة تنتظر دورها لاختيار المينيو. بل الأدهى من هذا كله، كيف يمكن تفسير إقبال الناس على شراء المنتجات الباهظة الثمن على أساس أنها موضة جديدة أو أنها لوكس؟!
للوصول إلى فصل المقال في مسألة الإعلانات التجارية، وجب علينا فهم منهجية صناعتها، وطريقة تفكير المعلنين. فقبل أن تصدر شركات التواصل والإعلان منشوراتها وإعلاناتها، فهي تقوم بدراسة الاحتياجات النفسية للمستهلكين التي تحدد سلوكياتهم واختياراتهم. هذه المحددات النفسية تعتبر الوتر الحساس الذي تعزف عليه جل الإنتاجات الإعلانية. وتأصيل هذه الاحتياجات يجد منبعه في دراسات علم النفس والتحليل النفسي والسلوكي.

فحسب علماء النفس ،فالإنسان يملك حاجيات نفسية، صنفها العالم الأميركي إبراهام ماسلو على شكل هرم، قاعدته احتياجات النفس البشرية الحيوية أو الأساسية، ورأس الهرم عبارة عن احتياجات الانتماء وتحقيق الذات أو الكماليات. من هنا تبدأ متطلبات الإنسان. فكلما أشبع احتياجات المستوى الأول إلا ودفعته غريزته نحو طلب المستوى الأعلى. فإذا أحس الإنسان بالأمان وشبعت بطنه، إلا وبدأت احتياجات أخرى في الإلحاح عليه، كحب الانتماء إلى المجموعة والتواصل والرغبة في تحقيق الذات والرقي.
خبراء التسويق والإعلان يعتمدون كثيراً على دراسة الجوانب النفسية والسلوكية لدى المستهلكين، ويستعملون لهذا الغرض الدراسات الأكاديمية المتوفرة في هذا المجال. بالإضافة إلى هذه الدراسات، فهؤلاء الخبراء لا يتهاونون في اقتناص الفرص العظيمة التي يوفرها تقدم التكنولوجيا الحديثة، خصوصاً في دراسة تفاعل الدماغ البشري مع المحفزات التي تقدمها الإعلانات وأغلفة المنتجات. دراسات وصلت حد تعليل اختيارات الألوان والروائح والأضواء التي يواجهها المستهلك في تجاربه أثناء التسوق.

أحد الأمثلة المتقدمة في هذا المجال ما يسمى بـ"Eye tracking"، وهو جهاز تكنولوجي متقدم عبارة عن نظارات ذكية موصولة بجهاز حاسوب، يبين اتجاهات تركيز عين المستهلك أثناء تجربة اختيار المنتوجات. هذه التكنولوجيا يستعملها مراكز الدراسات التسويقية المتخصصة في دراسة تجارب التسوق وسلوكيات المستهلك، حيث يتم من خلالها تحديد تفاعل المستهلك مع الألوان وأشكال الأغلفة وحتى تموضع السلع في رفوف المتاجر.

من التكنولوجيات المستخدمة أيضاً، جهاز لقياس تحركات عضلات الوجه، خصوصاً على مستوى الجبهة والعينين وجوانب الفم، تكنولوجيا ترصد اهتزازات العضلات من خلال مجسات طبية مرتبطة بحاسوب. يتم وضع المجسات على وجه المستهلك المجرب أثناء مشاهدته لإعلان أو تمرير أغلفة المنتجات أمام ناظريه. ليتم تحليل المعطيات والحصول على نتائج تأثير شكل ومضمون الإعلانات والباكاجينغ على قرارات المستهلكين.

الإعلان لا يعدو أن يكون انعكاساً للاستراتيجية التسويقية، التي تأخذ من الشركات المنتجة وقتاً وجهداً مهمين قصد دراسة كل الجوانب المتعلقة بسلوك المستهلك، وكذلك محاولة توقع ردة فعله إزاء المنتج. إضافة إلى بحث قدرة الإعلان على إقناع المتسوق، لكي يتحقق في الأخير الهدف الكبير وراء كل هذه المجهودات وهو التقاط الجبن من منقار الغراب، عفواً، التقاط الثمن من جيوب المستهلكين بأقصر الطرق المتاحة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد