لقنت لأعوام وأعوام إن مشهد يوم القيامة، والحساب يحوي معجزات إلهية عدة، ومنها أن جلود وأيدي وأرجل المذنبين ستشهد عليهم، وتنطق بما فعلوا.
أكدا القائمين على التلقين أن هذه الشهادة من باب أهوال يوم الحساب، وأننا مراقبون ومحاصرون ولا مجال للفكاك، أصغر الذنوب وأكبرها سينطق العضو الذي ارتكبها بها.
في لحظات إعمال العقل التي تصيب البعض أحياناً، وخصوصاً في ديننا الحنيف، والتي أصابتني منذ فترة ليست ببعيدة، (فعُرف مجتمعاتنا اسمعْ وأطعْ، وإلا تكن مجدفاً على الثوابت ومزدرياً لها)، بدأ عقلي يسرح فيما هو أبعد، فالله قال في كتابه العزيز {إني جاعل في الأرض خليفة}، وفكرة الخلافة في الأرض أو الكون بشكل عام، تعني بالمنطق أن المُخلف هذا يملك حرية الاختيار والقرار، فالسبل معروفة وواضحة وبقوة العقل وبحكم كونه خليفة يملك الاختيار في الخيارات المتاحة كافة.
ومع ذكر الثواب والعقاب، ووفق المنطق البشري، والتشريع القانوني، وجود أدلة إثبات وإدانة أو نفي وبراءة، ضرورة وأساس في إقامة ميزان الحساب.
الله عز وجل موجود، فوق الزمان والمكان، علمه يسع ما كان وما سيكون فهو العلم ذاته، لذا حساب خليفته على أفعاله أمر غاية في البساطة لجلاله، لكن لآن الله هو المثل الأعلى كان لا بد من إقرار المبدأ القانوني في الإدانة، وهي إيجاد الدليل القطعي الذي لا يحتمل الشك، والذي يعرف جلياً طبيعة الذنب والجرم ويوصفه ويثبت الإدانة به، فكان، وفقاً للقرآن الكريم، ملكين عن اليمين والشمال لتدوين الأفعال كافة، وكان إنطاق الجلود والأيدي والأرجل والألسنة بطريقة وماهية إلهية، لتحقيق هذه الغاية.
هذا المثل الإلهي يوضح لمن يُعمل العقل أمرين، الأول يرتبط بالحساب الإلهي والمرتبط باليوم المشهود والثواب والعقاب، الجنة والنار، ويشير بشكل قوي ومهم لتعاليم وأمثلة واضحة للخليفة الذي أودعه الله في الأرض وسخر له الكون، أن يطبق هذا المثال بشروطه المتوائمة من إمكاناته كإنسان.
الله يضرب المثل الأعلى، فتصيح بعض العمائم بالنار والعذاب والشهود الكثر علينا، يضرب الله المثل لأولي الأمر في الأرض على اختلاف مستوياتهم.. حكاماً، آباءً، معلمين، عمالاً، وكل تصنيفات البشر، فيأبى كثيرون النظر إلا للجنة والنار واليوم المشهود.
بزاوية رؤية إلى للوضع المصري، تجد العقاب يسبق إقرار الذنب نفسه، فازدراء الأديان بات عنواناً عريضاً بلا معنى يتضمنه، فمن المنطقي أن تسمع سب الدين تتناقله الأفواه يومياً في الشارع، لكن التفكير قليلاً، أو حتى الخطأ الفكري مدان.
الغناء بأي كان، الدفاع عن أي كان، مما يجلب الصداع للمتسيد، يتم إلباسه وبكل هدوء ثوب إثارة الفتن والعمل على قلب النظام.
أعداد كثيرة من الإدانات جاهزة ويمكن استعمالها وقت الحاجة، وحتى إن لم توجد يمكن العمل على تفصيلها بسرعة، بعيد عن التثبت والتأكد والشهادات القاطعة التي لا يمكن التشكيك فيها، على الرغم من أن وجود وإثبات هذا كله ممكن بقليل من العمل، أو بقليل من التعقل حتى لا تتحول الأرض من مستقر ومتاع إلى أرض الخوف.
الحكم بين العامة من الناس بات سهلاً، لا يحكمه المثل الأعلى الذي يضع أهمية وضرورة قصوى للإثبات، بل يحكمه إلى أي فريق تنتمي فكرياً (أو بالأحرى لا فكرياً ولا عقلياً)، فذنب الخيانة والعمالة حاضراً في كل وقت، وذنب الجهل والعقم الفكري موجود، فقط ارفع يدك واسحبه من رفوف الاتهامات وألقه تجاه من تريد.
المثل الأعلى أم التطبيق الأدنى، هو الأحق بالفهم وإعمال العقل فيه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.