حينما تنكدر الدنيا وتَسْوَدُّ أيامها ويصير ليلها كنهارها حالك السواد، مره غالب، حرارته شديدة، ليس فيه شيء سوى ظلم وقتل وتشريد وضيق نفس. لا يتصبر على هذا إلا بالحب.. وأي شيء أفضل في هذه الحالة من أن تجد من يتمسك بك رغم كل ما فعلته بك الدنيا ورغم طغيانها عليك، تجد من يتمسك بك في لطف وعشق واحتواء؛ ليبدد كل هذا الليل ويعيد إشراق الصباح في لحظة سكت عندها الملايين وتوقفت عدسات الكاميرات لتلقط أفضل صورة رومانسية لإعادة فيها لمشهد بأمر المخرج، ولتصور للعالم أجمع الحب كيف يكون.. فرأى العالم هذا المشهد بقلبه وعقله قبل عينه، أنه أصدق المشاهد الرومانسية على الإطلاق.
الدكتور أحمد عارف يحتضن زوجته في مشهد حب وعشق واحتواء وتزود بالقوة وشكوى المر واحتياج لذاك الدفء الذي أبي الظالمون إلا أن يتفرقا.
الدكتور باسم عودة يتحضن ابنته التي صارت كأميرة رأت ملكها يتوّجها بحمله لها، وإذ بعينيها تقول للقاضي: فخورة به رغم ملابسه البالية ورغم جسده النحيل ورغم ما ألم به الحال، وإنّ وردته تلك كخاتم من الألماس لا يقدر بثمن.
رأيت الحب حقيقياً متجسداً في هذا المشهد الذي لم يكتبه روائي أو يصيغ تفاصيله سيناريست أو يشرف عليه مخرج محترف لم تصغه إلا كاميرا فقط.. عكست صدق المشاعر وأذاعتها للعالم الذي رآها بقلبه.
وهذا درب من دروب الحب المؤكد الذي لا خداع ولا غش فيه، الذي لا تزينه الخدع الحديثة والكلمات المزيونة، إنه الحب في الأزمات، وما أمتعه وأجمله من حب، إنه أصدقها علي الإطلاق حين تجد الحبيب معيناً، صديقاً صادقاً، أماً، وكل شيء، فلا تجد سلوى سوى في التفكر فيه توحشك رؤياه فتصير هي المرجوة دون غيرها، تفتقد صوته فيجيء ملبياً في أحلامك تسلي صورته فتجدها مرسومة في خيالاتك.. ذاك هو الحب ♥ الذي لطالما رأيته أثناء المحنة في المعتقل بين الأم وولدها المعتقل الذي يظل ليالي يعدها ليلة بعد ليلة حتي يصل إلى ميعاد الزيارة فتنبلج أساريره ويحمر وجهه لأنه سيلقى أمه.. في خمس دقائق فقط! نعم.. ولكنها تمده بالوقود الذي يعينه على نوائب الدهر خمسة أيام أخرى فحضن أمه يبقيه حياً لأيام وصوتها يحيي سمعه وتقبيل يديها تسري الدم في القلب مرة أخرى، وخطها المكتوب في الرسالة يعيش على رؤياه وقراءته حتى تأتي الزيارة التالية. وصبرها على فراقه وازعه عاطفة ربانية وغريزة فطرية، أوجدها الله فيها فهي الأم التي عايشت مع وليدها كل مراحل عمره إلى أن صار إلى ما صار عليه.
وهذا المعتقل الآخر الذي جلس ينظم قصيدة لزوجته ليهديها تلك الكلمات عند لقياها فيحدثها بالكلام المعسول الصادق الذي لا رياء ولا غرض منه سواها سوى حبها سوى التعبير عن عشقه وامتنانه لها وهي الساهرة ليلة كاملة لتحضر له ما يريد وما يسمح به في الدخول وطهت له أشهى الأطعمة ودموعها لا تكاد تنقطع لاجل زوجها الذي باعدت بينهما الأسوار والأسلاك والحوائط المنيعة.
فتكتب هي الاخري قصة حب ? لا يقدر علي وصفها الروائيون ولا في وصفها الشعراء.
إنها قصة الحب الحقيقية التي سطرت معنى جديداً للحب مفتاحه الصبر والإيمان بالله والاحتواء القلبي والعقلي. فرغم تباعد الاجساد إلا أن القلوب ملتصقة لا يفرقها جبابرة الأرض ولو اجتمعوا فالحب مكمنه القلب لا يقضي عليه سوى انخلاع هذه الأفئدة من مكامنها وحتى لو انخلعت فالله مجمع بين هذه القلوب في
جنانه العلا.
ترى لماذا تصبر على هذا المظلوم ذي الجسد البالي والمنصب الذي زال وذي الأموال المصادرة الذي ليست له حيلة أو شيء يتعكز عليه؟ ترى والأواصر بينهما ليست طبيعية هي ليست أمه وليست أخته والعلاقات بينهما أبدية تستطيع الانفصال عنه وترك الأمر لأهله الطبيعيين.. لم ولن يحدث هذا أبداً فبينهما عهد لن يقطع وشريان حياة لن يجف، إنه حب أقسم أن يخلد رغم الظروف وقسوة الحياة إنه حب يعي أن الظروف هذه قصيرة إذا ما قورنت بنعيم دائم في جنة الخلد {هم وأزواجهم في ظلال على الرائك متكئون} (يس).
وذاك المعتقل الذي ينتظر مجيء أولاده لزيارته لتجد أبناءه فخورين بأبيهم الذي مزقت جسده بدلة السجن الخشنة ذات القماش الذي صنع خصيصاً ليسبب أمراض الجلد، فتجدهم يقبلون يديه ورأسه؟ على أي شيء ولأي شيء؟ سوى أنهم يشعرون أن أباهم هذا كالذاهب في مهمة للقتال في سبيل الله وسيرجع إليهم محملاً بالغنائم التي تملأ بيوتهم ذهباً، إن تلك الغنائم حباً قد تولد في غمار الأزمة.
إن حب الأزمات كما أسلفت هو أقوى حب قد يولد، إذ هو يسير بعكس المفروض والمعتاد، فهو كسر للظروف وثورة، إنه تحقيق لكل معاني الحب التي يتغنى بها من لا يقدرونها سوى في الوصف والأفلام والروايات، ولا يشعرون بمعانيه سوى المعاني الشكلية المستوردة الخاوية من الشعور العميق بأصل الأشياء.
فاللهم ارزقنا إياه بغير أزمة..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.