أربع سنوات بين أروقة جامعة النجاح الوطنية

منذ أن وطئت قدماي ساحات الجامعة كان لزاماً عليَّ أن أحدد: من أنا؟ ماذا أريد؟ كيف أحقق ما أريد؟ لماذا أسعى لتحقيق مبتغاي؟ إلى أين أريد الذهاب؟ لكي لا أتوه بين أسوار الجامعة ولا أجد نفسي في يوم من الأيام.

عربي بوست
تم النشر: 2016/05/24 الساعة 04:40 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/05/24 الساعة 04:40 بتوقيت غرينتش

الثالثة والنصف عصراً، درجة الحرارة في الخارج تقارب الخمسين مئوية، وبداخلي تكاد تصل إلى الصفر، فاليوم نهاية أهم وأعظم مرحلة في حياتي، ألا وهي المرحلة الجامعية، تلك المرحلة السعيدة الحزينة المليئة باليأس والتفاؤل، بالإحباط والإصرار، ولا عجب في ذلك، فداخل أسوار الجامعة تمتزج المشاعر وتجتمع كل تناقضات الكون.

كعادتها طيلة أربع سنوات جامعية، تستقبلني أمي بابتسامة ودعاء، لكن هذه المرة ابتسامتها كانت مليئة بالفخر والاعتزاز بفلذة كبدها الحاصل على شهادة جامعية في تخصص العلاقات العامة والاتصال، على اعتبار أن الوظائف ستتهافت عليَّ، وبداخلي حسرة على زملائي العاطلين من العمل منذ سنوات كثيرة.

أختي، التي تكبرني سناً منهمكة في إعداد قهوتي (السادة)، والشغف يملأ قلبها لسماع أحاديثي المعتادة، فهي المصدر الوحيد لراحتي النفسية، وأنا ما زلت محتفظاً بقلمي الجاف ذي اللون الأزرق، حيث اعتدت تدوين ملاحظاتي وتجاربي اليومية به طيلة أربع سنوات جامعية، ولا أبالغ إن قلت إن بإمكانه تسجيل وقائع يومي على الكرّاسة السوداء دون الحاجة لأن أمسكه بيدي اليمنى.

منذ أن وطئت قدماي ساحات الجامعة كان لزاماً عليَّ أن أحدد: من أنا؟ ماذا أريد؟ كيف أحقق ما أريد؟ لماذا أسعى لتحقيق مبتغاي؟ إلى أين أريد الذهاب؟ لكي لا أتوه بين أسوار الجامعة ولا أجد نفسي في يوم من الأيام. ومن حسن حظي أن هذه الأسئلة الخمسة من أساسيات كتابة الخبر الصحفي، كنت أتذكرها مع كل خبر أكتبه قائلاً: "إذا كان الخبر لا يصلح دون هذه الأسئلة، فما بالك بحياة الإنسان؟".

عالمنا الخاص
اخترت أن أكون الطالب المهذب والنجيب والمثقف والمجتهد والملتزم دينياً وأخلاقياً، وبدأت المضي قدماً على هذا الأساس غير مكترث بما يجري حولي من أحداث مختلفة، تعرفت على الكثير من الأشخاص، وأصبحنا فيما بعد أصدقاء، نملك نفس الصفات والطباع ولدينا نفس الاهتمامات، اعتدنا على بعضنا البعض لدرجة يمكننا أن نفهم ما يريد أحدنا عن طريق الإشارة دون الحاجة لأن يتفوه بحرف واحد، سأطلق على نفسي وأصدقائي مصطلح "عالمنا الخاص".

مضت السنوات الدراسية الأولى والثانية والثالثة وأنا أتغلغل أكثر وأكثر في عالمي، بدأت بقراءة عشرات الكتب والروايات، تعرفت من خلالها على أنماط تفكير وأساليب حياة مختلفة، شاركت في الكثير من الأمسيات الثقافية، وحلقات لنقاش الكتب والروايات، تعرفت على أصدقاء من دول كثيرة، لتصبح حياتي عبارة عن قلم وكتاب وسيجارة وفنجان قهوة وأنغام موسيقية بحناجر شرقية بامتياز.

عندما تكون جزءاً من وسط لعدة سنوات، يصبح من الصعب عليك التأقلم مع أي وسط آخر، مهما ابتعدت ستشعر بالاشتياق لأصدقائك وجلساتكم اليومية وأحاديثكم العفوية ونقاشاتكم الميتافيزيقية، ومهما حاولت الانسلاخ عن قيمك ومعتقداتك السابقة لن تفلح في ذلك، فكان الخيار أن أحتفظ بها لنفسي وأكمل رحلتي، فأصبحت كسفير من عالمي إلى العوالم الأخرى، بالضبط كمن يسافر من موطنه إلى موطن آخر.

الانخراط بعوالم أخرى

في السنة الدراسية الأخيرة سئمت أصدقائي وحياتي الروتينية والقراءة والكتابة والتفكير بكل شيء، وشعرت برغبة جامحة بالتغيير والخروج من بين صفحات الكتب إلى واقع الحياة، وقررت الانخراط بعوالم أخرى مختلفة عن عالمي.

تعرفت على أصدقاء جدد وتقربت منهم، كنت أراقب تصرفاتهم وطريقة تفكيرهم واهتماماتهم، وأشاركهم في جلساتهم ونقاشاتهم، فكانت هذه العوالم غريبة بعض الشيء بالنسبة لي، فأنا اعتدت طيلة ثلاث سنوات دراسية على أسلوب حياة مختلف عما هم فيه.

أيقنت فيما بعد أن القراءة يمكنها أن تثري الدماغ وتجعل من طريقة تفكيرك ورؤيتك للأمور مختلفة، لكن لا يمكنها أن تولد الإحساس، التجربة وحدها تمكنك من الشعور بالكلمات، وتجعل من تأثيرها أقوى عليك، فأنت تقرأ وتشعر في الوقت ذاته، قاربت رحلتي الجامعية على الانتهاء، ذات يوم وقفت وقفة مع الذات، استرجعت كل السنوات، صديقتي تقف بجانبي، تحدثت إليها قائلاً: من يشاهد الجامعة من بعيد يعتقد أنها صرح علمي بامتياز، لا يوجد بين أسوارها إلا العقول النيرة المنغمسة في القراءة والكتابة والبحث العلمي، نظرت إليّ مبتسمة قائلة: بالطبع يوجد داخل أسوار الجامعة الكثير من الأماكن الجميلة التي لم يسبق لنا زيارتها من قبل، لم أصدم من ردها وطريقة فهمها لما قلت، ابتسمتُ لها وقلت: بالطبع.

لا يا صديقتي ليس هذا ما أقصده، لا أقصد جمال الأماكن والورود المتناثرة في كل مكان، داخل أسوارها عوالم كثيرة لم يكتب لي ولكِ أن نكون جزءاً منها، عوالم غريبة عجيبة صادمة وما نحن إلا عالم واحد من هذه العوالم، فمنهم المثقفون والمجتهدون والحالمون والأوفياء والخائنون والمتعجرفون والبسطاء والعلمانيون والإسلاميون والعاشقون والمجروحون، ولكل منهم طقوسه الخاصة.

انظري إلى هناك، هل تشاهدين تلك الفتاة، هي بأم عينها عالم، لو تحدثت عما بداخلها لصدمت عدة سنوات، وهناك قصة نجاح تقف على هيئة شاب في مقتبل العمر، وهناك فتاة أبت أن لا تكون مجرد فتاة، وهناك شاب آخر يقف متأملاً حال نفسه، يرغب بكسر القيود والخروج عما هو معتاد.

رحلة البحث عن الذات

انتهت رحلتي الجامعية ولدي شبكة علاقات من جميع الفئات، عشت جميع اللحظات، أدركت تماماً معنى الكلمات، عدت إلى عالمي حيث بدأت، ما زال أصدقائي يجلسون حيث كانوا من قبل، مرحباً، وكيف أنتم؟ أهلاً بعودتك صديقنا، أين كنت؟ كنت في رحلة استكشافية حيث واقع الكلمات التي أمامكم، والآن يجب عليَّ البدء من جديد، في رحلة البحث عن الذات، نصيحتي لكل من يقرأ هذه الكلمات: لا تضع نفسك في إطار واحد لعدة سنوات، ولا تغلق الباب على نفسك رافضاً لأي محاولة تغيير، تعلم وجرب كل شيء، فالحياة تجارب، اكسر روتين يومك ولا تخشَ شيئاً، وتذكر دوماً لكلٍ منا طريقة تفكير وأسلوب حياة معين، فما هو مسلمٌ بالنسبة لك، لربما لا يعني للآخرين شيئاً.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد