لم يعد يخفى على أحد حجم الخلاف والتباين في وجهات النظر لدى التيار الإسلامي، سواء بين الحركات المختلفة التي تتقاسم مرجعيته، أو حتى في البيت الداخلي لبعضها، حول عدد من القضايا المطروحة في الساحة، التي جَرَّت بعضها لمراجعة أدبياتها وتوجهاتها الكبرى، مما فتح الباب لسجال واسع، وصل إلى حد اختراق تنظيمات كانت إلى وقت قريب محصنة عن النزاعات، أو بمعنى أدق لم تكن تخرجها إلى العلن فيما مضى وتعالجها في دوائرها الضيقة، حتى بتنا نتابع كيف أصبح بعض قادتها ورموزها يتراشقون بينهم، ويصفّون حساباتهم في وسائل الإعلام.
الخلاف طبيعي وإن بلغ مستويات حادة، ذلك أن ما يجري في المنطقة ليس هيناً بحال، وهو كفيل بإعادة تشكيل المنطقة والعصف بتيارات كانت إلى وقت قريب متجذرة في تربتها والإحلال مكانها قوى مجتمعية جديدة، وليس فقط بلورة نقاشات، مهما اتسمت بالعصبية، حتى وإن أدت إلى إحداث تصدعات في البنية التنظيمية لحركات معينة.
نفهم إذن ظهور اجتهادات ومراجعات لمواكبة متطلبات المرحلة الاستثنائية، وتجديد الدماء في أوصال الجسد الإسلامي، من أجل الخروج ببلداننا من النفق القاتم المعتم، لكن الملاحظ أن جانباً من تلك المراجعات قد أخلف الموعد مع الرهانات المعلقة عليه، وبدل أن يدفع بالحركة الإسلامية إلى الأمام، حرف قطاعات منها عن المسار السليم، وأدخلها في متاهات وإشكالات إضافية.
ذلك أنه وبسبب استئثار الممارسة السياسية على اهتمامات غالبية الإسلاميين في واقعنا الراهن، فإن أية مراجعة لخطهم ارتكزت أساساً على هذا الجانب، منطلقة من تجاربهم المريرة والأهوال التي عاشوها مع الأنظمة الاستبدادية في المنطقة، وسط رفض مطلق لهم من المحيط الإقليمي والدولي.
وهكذا بدأ النضال للحصول على الشرعية القانونية، وضمان الوجود في الأرض يطغى على أي نقاش آخر عند بعض المغامرين، واقتصر اجتهادهم الذي يفترض أن يكون عاماً وشاملاً فأصبح رهيناً بهذه الجزئية، وبها يجر القاطرة دون انضباط لأي منطق أو معيار، ودون أن يحدث جهداً حقيقياً مستقلاً يغطي باقي مجالات اشتغالات الحركة الإسلامية، بعيداً عن التأثر بإكراهات إرضاء السلطة ومجاملة نخبها.
ولأن أنظمتنا تشترط أثماناً باهظة لقاء تنازلات من جهتها لأي طرف تحكمه، وإن تعلق الأمر بحقوق ثابتة له، فلم تمانع بعض الشخصيات المحسوبة على الصف الإسلامي في دفع تلك الأثمان حتى لو غامرت بشرفها ومستقبل تنظيماتها، حتى لو شرعنت الاستبداد وظلمه وفساده، وقفزت على آلام وآمال شعوبها، وما ساعدها على المضي في هذا الخط حالة التقوقع والعزلة التي عانت منها، والتي جعلتها تحس بالاستقلالية عن الشعب الذي تنتمي إليه، وبأن مصيرها غير مقترن بمصيره.
وفي هذا الإطار يتحدث أحدهم في سياق مراجعات مجموعته بأنهم أخطأوا حين استعدوا نظام بلدهم وبادَأوه بالخصومة في حين كان من الممكن مهادنته والتفاهم معه، يتحدث دون أن يشعر بذرة حياء من حجم المظالم التي اقترفها حاكمه، والذي هو مستعد لأن يغمض عينيه عليها هكذا ببساطة فقط إذا تم استثناؤه ورفاقه من مقصلة النظام وقبل بإلحاقهم بحظيرته، في أسلوب براغماتي رخيص هو أقرب لسلوك العصابات الابتزازي منه إلى أسلوب حركة مجتمعية أصيلة.
الواضح أن لهذا التفكير بوادره القديمة، وله أنصاره منذ بدايات تأسيس الحركة الإسلامية، غير أنه لم يصل للمستوى الراهن بسفوره ووضاعته، وكانت تلجمه الأدبيات القوية الصارمة وروح التضحية الكبير والمزاج المعارض السائد في الفترات السابقة بين جل التيارات النشيطة، لدرجة أن الحركات الإسلامية بزت الجميع على صعيد معارضة الأنظمة القمعية، أو في مجال مقاومة الاحتلال الخارجي، وخلفت تراثاً زخماً في هذا الموضوع أسهم في ثباتها على مبادئها وعدم تزعزع نشطائها أمام المحن التي واجهتهم.
لم تختلف الصورة كثيراً حالياً، فما زال الإسلاميون سادة الميدان والأكثر التصاقاً بالناس وبهمومهم، والأنظف سيرة مقارنة بالآخرين، لكن هذا التراث بدأ يتعرض لقصف عنيف من طرف هؤلاء، بحجة أنه يدفع للانغلاق ويهيج مشاعر الصدام مع المجتمع، كما يجعل الإسلاميين أسرى البكائيات والتلذذ بالعذابات التي آن الأوان للقطع معها.
مبدئياً نحن متفقون على أن الحركة الإسلامية تحتاج فعلاً للانفتاح قدر الإمكان على تركيبة مجتمعاتها الغنية والمتنوعة، لكن ثمة فرقاً بين تهذيب بعض من قناعاتها في سبيل تحقيق هذا الهدف وبين التبرؤ من إرثها الكفاحي، وقد كان بالإمكان أن يحدثوا مراجعات دون حاجة للتجريح فيه أو التهكم منه، فما من تيار يحترم نفسه يسخر من تاريخه وتضحيات رموزه مثلما يصنعون.
الحقيقة أن المظلومية ليست اختياراً متى قررنا نغادرها، وهي ليست صرعة قد انقضى زمانها كما يسوقون، هي واقع يفرض ذاته على الحركة الإسلامية أو على أية حركة مجتمعية معارضة وينعكس على خطابها وسلوكها، ولن ينتفي هذا الإحساس إلا عندما يحدث تغيير حقيقي في بلادنا يسود فيه العدل وتضمن فيه الحقوق للإسلاميين ولعموم المجتمع، حينها إذا أصر طرف ما على المعاندة يمكن رميه بالمازوشية، أما في ظل تغول المستبدين على البلاد والعباد فلا نفهم أين المصلحة في حملاتهم تلك، إلا إذا كانت النية المبيتة هي نقل البندقية إلى الكتف الأخرى، ساعتها يلزمهم شطب كل شعارات الإصلاح والتغيير من قاموسهم حتى لا يدلسوا على الناس، فكل من قرر أن يحمل مشروعاً إصلاحياً في بلادنا ينبغي أن يضع احتمالاً قوياً للإيذاء، ولن ينفع بعضهم ذكاؤهم أو حنكتهم السياسية في تفادي ذلك المصير؛ لأن الطرف المقابل لهم أكثر براعة منهم في هذا المضمار.
قد يكون الأمر مقصوداً من طرف بعضهم للتخفف من ثقل المبادئ التي طوقهم بها من سبقهم، فهم يعلمون أن مجهودهم يصب تلقائياً في إقصاء خيار المواجهة من خياراتهم، ويدفع بهم إلى العمل بأريحية على طرق كل الأبواب إلا ذلك الباب، فكلما استجد حدث استلزم معه إصدار موقف من جهتهم يختارون تلقائيا ًالأسلم لشخوصهم ولإطاراتهم، مهما ابتعد عن أدبياتهم أو عن تطلعات شعوبهم، ثم تشتغل بعده الماكينة التبريرية التي لم تتوقف ولا مرة لتقول إن هذا خط أحمر.
فإذا كان الانحناء في ظرف ما مبرراً عند بعض المدارس، فإنه القاعدة الدائمة عندهم، علماً بأنه في بعض المحطات التاريخية تنمحي المناطق الرمادية ويصبح من المستحيل المناورة، ومع ذلك لا يمانعون في الانتقال إلى المنطقة المحرمة.
النتيجة أن المرء لم يعد يستغرب شيئاً من هذه المجموعات؛ حيث أصبحت بعض الأصوات منهم تنادي الإسلاميين بمراجعة موقفهم من الكيان الصهيوني وعقد سلام معه، وتورط بعضهم في المساهمة في احتلال العراق وأفغانستان، أو استدعاء الناتو في ليبيا، أو شرعنة انقلابات دموية كما في مصر والجزائر، أو التواطؤ مع سلطات بلدهم لضرب حركتهم الأم، مثلما يحدث حالياً في الأردن.
ربما يتحججون لتبرير مواقفهم بالاجتهاد، وبأن الممارسة السياسية قد أنضجت أفكارهم عكس الأجسام الجامدة التي لا تتطور، وكان من الممكن تفهم مبرراتهم تلك وتقبّل منطقهم، لولا أن أداءهم يفضح تلك المزاعم، فثمة فرق شاسع بين النضج المفترى عليه والتخبط الواقعين فيه، وإن كان كلاهما يحدث تغييرات في الذات، غير أن الأول يتم وفق نسق منسجم واضح المعالم ويمضي بوتيرة معقولة، عكس الثاني الذي يظل منفعلاً بالأحداث التي تقلبهم ذات اليمين وذات الشمال بلا أدنى إرادة ذاتية منهم، سوى إرادة الحفاظ على التوازنات التي أضحت المقدس الوحيد بالنسبة لهم.
الغريب في الموضوع هو الصورة التي يحاول البعض إضفاءها على هذا التوجه؛ حيث يحظى بدعم نخب إعلامية وسياسية كثيرة، والتي لا تكف عن إطرائه ووسمه بالتنويرية والإصلاحية وتحليه بالشجاعة الأدبية والفكرية وما إلى ذلك، ولعمري كيف يعتبر التنازل لأنظمة مغرقة في التخلف والفساد والاستبداد إنجازاً يستحق الإشادة بأصحابه، لكن هذا يؤشر إلى مسألتين؛ إما أن من يسوق لهم متناغم مع طروحاتهم، أو هو نوع من الاستدراج للتيار الإسلامي الذي تمارسه بعض الجهات حتى يفقد رصيده كما فقدوه هم منذ زمن.
الملاحظ أن خطورة تفشي هذا الفهم لا تقتصر على ذواتهم وحرق مشاريعهم فحسب؛ حيث يشكل حجر عثرة أمام أي إصلاح حقيقي في الجسد الإسلامي، فبسبب أدائهم الذي يفقدهم المصداقية يتنامى التطرف في صفوف الشباب كرد فعلي طبيعي ما دامت جبهة هذا الأخير أكثر تفانياً وإخلاصاً لمبادئها.
عموماً فإن انتقاد هذا الاتجاه لا يعني القبول بالجمود أو الارتياح لبعض ممارسات الإسلاميين التقليدية، ذلك أن ما نحتاجه حقاً هو تجديد حقيقي في الفقه المنحبس يقطع مع مخلفات الاستبداد القروني، وفي المقابل يعض بالنواجذ على الأساس التربوي ومدافعة الظالمين، فلا معنى لأي وجود حركي إسلامي دون تحقق هذين الشرطين.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.