في الحديث الذي رواه مسلمٌ عن معاوية بن الحكم السُّلمي، قال: بينا أنا أُصلِّي مع رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- إذْ عَطَس رجلٌ من القوم، فقلتُ: يرحمك الله، فرماني القومُ بأبصارهم، فقلت: واثُكل أُمِّياه! ما شأنكم تنظرون إليَّ؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلمَّا رأيتُهم يُصمِّتونني، لكنِّي سكتُّ، فلمَّا صلَّى رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- فبأبي هو وأمي، ما رأيتُ معلِّماً قبلَه ولا بعدَه أحسنَ تعليماً منه، فوالله ما كَهَرني ولا ضَرَبني ولا شتمني، قال: ((إنَّ هذه الصَّلاةَ لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس، إنَّما هو التسبيحُ والتكبيرُ، وقراءةُ القرآن)).
كان يحقُّ للمعلم الأوَّل في هذا الموقف أن يضع حداً لما فعله معاويةُ في صلاة المسلمين، فضلاً عن صلاته، وكان يمكنُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلَّم أنْ يعاقب معاويةَ؛ لأنَّه ربما تدخَّل -حتَّى ولو عن جهلٍ- في ما يدينُ به الناس لربِّهم من صلوات وعباداتٍ ونسك، كذلك كان يُمكن للنبيِّ صلى الله عليه وسلم أنْ يفكَّر بالمنطق الآنيِّ، فربما لو قبض ملكُ الموت رُوحه -بأبي هو وأمِّي- في هذه اللحظة وقبل أنْ يفرغ من صلاته، لمات دون أن يصحح لمعاوية ولغيره من المسلمين الذين قد يخدعهم سكوتُ النبي هُنا، لكنَّ المعلم الرفيق الذي ذمَّ العُنصريَّة أبى إلا أنْ ينتهي الناسُ من صلاتهم، ثم أخذ معاوية بالرفق واللين، دون ذمٍّ أو لومٍ أو توبيخ؛ فقد أدرك النبيُّ أنَّه بسكوتِه ربما ينخدع خمسةٌ أو عشرةٌ حتى نهاية الصلاة، لكنَّه سيُثبِّتُ في ملايين بعد ذلك -وإلى الأبد- قيمة الرحمة، فصلاةُ المُؤمن له، أمَّا رحمتُه فللناس!.
ليس من حقِّك أنْ تحتكر ما تعتقدُ أنَّك تمتلكه من شرفٍ ومُرُوءةٍ، وليس من حقَّك أنْ تفرض علي الناس ابتسامتك، ومقاييس أخلاقك واعتقاداتك.
فتاةٌ نظيفةٌ تطلب من أصدقائها أنْ يُسعدوها بهديَّة تمنَّتها، وحالت دونها مرارة الاعتقال أو الفقد، فإذا بهم يطلقون نكاتهم الساخرة عليها؛ لأنَّها بمقاييسهم "شحَّاذةٌ شيك"، يُقرِّرون لها متى تبتسم، وكيف تبتسم، وماذا تطلبُ ومِمَّن؟!.
بائِعٌ للحلوى يُطلق بالوناتٍ ملونةً في الهواء؛ ليجذب الأطفال، يأتيهِ طفلٌ أسود يُعاني عنصرية رفقائه، فيسأله: يا عم، هلْ لو أطلقتَ بالونةً سوداء في الهواء ستطيرُ عالياً؟!.. يبتسم الرجلُ ويُنظِّرُ ويجيبُه: نعم يا بني؛ لأنَّ ما يرفعُها في الهواء ليس لونُها، وإنَّما ما تحملُه بداخلها!، الموقف على عمومه يحتاجُ إلى تصفيقٍ حاد وصيحات تشجيعيَّة، لكنَّ ما أدهشني أنَّ بائع البالونات نفسه لم يكن يطلق في الهواء وسط بالوناته الملونة أيَّ بالونةٍ سوداء!.
رجلُ الدين العصريِّ الذي أوسعنا حديثاً عن الانفتاح على الآخر، ومواقف السيرة النبويَّة التي شجَّعت المسلم على الحوار وتقرير المصير، هو نفسُه الذي يتهربُّ من الرد على أحد الشباب الذي ناقشه أمس في رواية ابن حجر في كتابه الدرر الكامنة (4/153) عن كلبٍ مربوطٍ هاجم رجلاً تترياً سبَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخمشه، حتى خلَّص المارةُ الرجلَ من الكلب بعد معاناة، ثم لما عاد التتريُّ في السب ثانيةً، قطع الكلبُ رباطه ووثب على عنق الرجل، وقلع زوره في الحال، فمات الرجلُ من فوره!.
عاقب الشيخُ "المُتفتح" عقل الشاب العشريني لمجرد أنَّ الشاب تجاوز مساحة الحرية التي فرضها عليه شيخُه، ورآها مقبولةً لمن هم في مثل سنِّه!.
لا أعرف على مدى علمي البسيط جيلاً بائساً ذاق مرارة الفقد والقهر والانتكاس كجيلي، ولا أعرفُ أيضاً جيلاً كجيلي، يعضُّ بنواجذه على فتات الغد، ويفعل ما يفعله السجناءُ كل صباحٍ.. يُربِّي الأمل.
بيْن عُنصرية باسم الله وإقصاءٍ لمن لم يمنحوهم صكوك الله ومعرفته، وعنصريةٍ باسم المبادئ التي أقرُّوها وحدهم، ورجموا كل منْ حلَّق خارجها، وعنصريةٍ باسم الأمن والخوف على مستقبلك، فقرروا هم وحدهم ما ينبغي أن تقوله، وما لا يجب أنْ تراه حتَّى في منامك، وعنصريةٍ باسم الموقف واللحظة، فهذا مناسبٌ يليقُ بك، وذاك رفاهيةٌ لا وقت لها أو مجال، وعنصريةٍ باسم مناهضة العنصرية، بينما يسجلون هم أحدث صيحات العنصرية الجديدة!، بين كل هذا وغيرِه تنوَّعت عنصرياتهم؛ إذْ اكتشفوا فجأةً أنَّ عنصريةً واحدةً لا تكفيهم!.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.