في الموسم الثاني من المسلسل الشهير "House of Cards"، وأثناء تأديته اليمين الدستورية كنائب لرئيس الولايات المتحدة الأميركية، قام فرانك أندروود -والذي قام بأداء دوره الممثل الشهير كيفن سبيسي باقتدار- مخاطباً المشاهد شارحاً لما يقوم به كأسلوب درامي معتاد في المسلسل، بقول التالي: "هأنا على بعد خطوة واحدة من الرئاسة، وبدون الحصول على صوت واحد.. حقاً إن الديمقراطية تُعطَى أكثر من قدرها".
لسنا هنا بصدد الكلام عن خفايا وتعقيدات طيف المشهد السياسي في أميركا، لكن يكاد يكون لكل واحد منا قصته الشخصية -فضلاً عن القصص التي يراها ويسمع عنها- عن أشخاص وصلوا إلى مناصب أو حازوا مزايا إضافية أو يمتلكون نفوذاً وتأثيراً قوياً بسبب امتلاكهم علاقات مميزة لا تتوفر لغيرهم.
بالطبع يسهل عزاء هذا الأمر إلى المحسوبية أو اتباع أساليب غير أخلاقية، وهو أمر قد يكون صحيحاً في بعض الحالات، ولكن هذه الأمور تبقى غير كافية للتفسير وغير كافية لمعالجة الأمر، فمن جهة أخرى يمكن للكثيرين أيضاً أن يسردوا قصصاً أخرى تم فيها الوصول إلى معلومات مهمة لاتخاذ قرار أو تم حل مشكلة أو تحولت فكرة مبدعة إلى مشروع حقيقي على الأرض بسبب امتلاك علاقات مميزة.
نحن نعيش في عالم معقد ومتشابك ومتحرك على نحو عجيب، ومنذ القدم فقد قام العلماء في مختلف المجالات بمحاولات دراسة وفهم هذا التعقيد لأغراض متعددة وعلى مستويات كثيرة، وفي العقود الأخيرة ومع التقدم الكبير في النظريات الرياضية وقدرات الحساب المختلفة أصبح من الممكن التعامل مع الكثير من الأنظمة المركبة على أنها "شبكات"، فقد أصبح رسم العلاقات للمكونات المركبة لهذه الأنظمة سهلاً كما ازدادت سهولة إجراء العمليات الحسابية لاستخراج بعض المعلومات المهمة.
وكان من نتائج ذلك في أوساط العلوم الاجتماعية التوسع في التعامل مع الأنشطة والتفاعلات والعلاقات الإنسانية المختلفة في المنظمات والمجتمعات بالنظر لها على أنها شبكات، وأصبح من المتاح استخراج رسوم بيانية مع الكثير من المعلومات التي كان يصعب الحصول عليها، والتي يمكن أن يُستخرج منها الكثير من الدلائل التي يمكن تفسيرها من زوايا نظر علمية مختلفة.
للأسف الشديد، في الوقت الحالي، يغلب على خيال قطاع كبير من الناس عموماً عند ذكر كلمة الشبكات ما عرف في السنوات الأخيرة بـ"شبكات التواصل الاجتماعي" التي نشأت بعد تطوير "منصات الإعلام الإجتماعي" على الإنترنت مثل فيسبوك وتويتر ولينكد إن وواتسآب وغيرها، ومع أن هذه المنصات توفر فعلاً أدوات تساعد وتسهل عملية التواصل والتشبيك، إلا أنه بسبب ضعف الخيال وقلة الحيلة تم اختزال فكرة الشبكات والشبكات الاجتماعية تحديداً في صور محددة وبتطبيقات عملية ساذجة أو غير فعالة في بعض الأحيان، كما أن كلاً من هذه الأدوات يستبطن فلسفة خاصة تحكم عملية استخدامها، وتوجه عملية التواصل بأشكال معينة، لا تثمر إلا عند توفر بعض الظروف والشروط المناسبة.
في اللغة، تطلق كلمة "شبكة" على كل متداخل متكامل، وتهدف دراسة الشبكات بشكل عام بطرائق التحليل المختلفة إلى محاولة فهمها والتنبؤ بحركتها ومحاولة التأثير عليها، ودراسة شبكات العلاقات الإنسانية/الاجتماعية المختلفة تهدف لذات الشيء، إلا أن على الجميع أن يكون أكثر تواضعاً عند محاولة التنبؤ بسلوك البشر الفردي والجماعي؛ لأن هناك من العوامل غير المادية ما لا يمكن قياسه ولا يمكن تضمينه في معادلات ونماذج رياضية، لكن يبقى لهذه الدراسة أهمية ومقدرة تفسيرية إذا وضعت في حجمها ومكانها المناسب.
عند الحديث عن علاقات وتفاعلات البشر، فإننا نتحدث عن كائنات حية متحركة تمر بأطوار مختلفة وتستمد حياتها وحركتها من حياة وحركة مكوناتها، الغفلة عن هذه الفكرة تؤدي غالباً إلى سوء الفهم والتقدير والتعامل.
فعلى سبيل المثال، جرت العادة على تصوير بنية المنظمات المختلفة كالشركات والجمعيات والمستشفيات والجامعات والمدارس فيما يعرف بـ"الهيكل التنظيمي"، وهو يصور عادة على شكل صورة ثابتة لبناء هرمي تكون قيادة المنظمة في قمته يليها قيادات الصف الثاني، وصولاً إلى أدنى السلم الوظيفي في قاعدة الهرم، لكن في الحقيقة على أرض الواقع، فإن مراكز النفوذ وصلات الوصل ومحاور التنسيق والتكتلات تتغير باستمرار بتغير الظروف والعمليات والقدرات والفرص وحتى الصراعات.
وعند القيام بمحاولة رسم الهيكل التنظيمي ليعبر في لحظة محددة عن سير الأمور بإزاء مسألة محددة، فإننا نجد أنفسنا أمام "شبكة" من الكيانات بينها علاقات أو روابط، وفي حال تم جمع المعلومات المناسبة وبشكل دقيق قدر الإمكان مع إجراء عمليات التحليل الشبكي المناسبة، فإنه يصبح من الممكن معرفة وضع المنظمة وما يجري داخلها في تلك اللحظة عن تلك المسألة بشكل كبير وفعال على مستويات عديدة، وساعتها يمكن اتخاذ الإجراءات اللازمة عن وعي ومعرفة.
يمكن القول هنا باختصار شديد بأن "تحليل شبكات المنظمات" يهدف لجعل ما هو غير مرئي في سير العمل والعلاقات بالمنظمات، مرئياً.. وبالتالي يمكن اتخاذ القرارات المهمة عن وعي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.