دم النكبة!

رغم كل ما حصل ويحصل على أرضنا الثكلى.. فما زالت يد العجوز قابضة على غصن الزيتون وحفنة التراب.. وما زال الطفل والتلميذ قابضاً على الحجر والقلم.. وما زالت يد المكان هي الشاهد على كسر الزمان.

عربي بوست
تم النشر: 2016/05/17 الساعة 02:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/05/17 الساعة 02:35 بتوقيت غرينتش

قال: لو تسألني ما هو الوطن؟

هو ما ننتمي لهذه الحياة، ولكي ننتمي لا يمكن أن نوافق على الظلم.. ولنقف ضد الظلم لا يمكن أن ننسى، ولكي لا ننسى لا يمكن أن نمحو الذاكرة، ولكي لا تمحى الذاكرة والكيان من الوجود، لا بد من بقاء علامات فارقة تصمد أمام شراسة السارقين.

الوطن هو الكرامة.. بلا وطن لا كرامة.. اقتلعت النفوس من أرض التاريخ.. من أرض الأجداد.. من غبار معارك صلاح الدين وعمرو بن العاص من أرض الديانات.. من هناك بالاستقواء.. وإجرام العصابات.. عصابات نفوسهم أتت متعطشة للانتقام.

لو تسألني ما هي النكبة؟

قطار فاجعة، وركاب بالآلاف يفرون.. هي أحداث ومجازر ومؤامرات ارتكبت ضد شعب بأكمله.. أرغم قسراً على الهروب والالتجاء.. هربوا أفواجاً وجماعات عراة لبلاد العالم المترامي الأطراف.

تم إجلاؤهم عن أرضهم بقوة السلاح من قِبل شعب آخر غريب أتى من المشارق والمغارب ليدق أرض الأجداد، ويدنس شعائر الأديان، ويزور قصص الجغرافيا والتاريخ، ويعيد رسم خرائط الطريق، ويحرف رياح التنوير، ويطمس الوجود للبلد وللقرية، والتل والبيارة، والمدرسة والجامع.
للتفريغ والتجهيل! ويسرق حروف اللغة والتراث وتهويد التعريب.

العرب نسوا أبناءهم وحملوا الوسائد! واليهود قصفوا واستوطنوا.. هدموا وقبروا.. أعدموا وذبحوا.. نهبوا وطردوا، وما زالوا.. يقصفون ويذبحون ويقتلون.. ويستوطنون، وينهبون.. العالم يقف عاجزاً مشلولاً أمام أعظم مصائب ارتكبت بحق شعب ظلم في التاريخ.

فلسطين صارت إسرائيل، وأم العين صارت رامات يوسيف والقدس يورشالايم، وبئر السبع بيرشيفع، وهكذا قلبت وهودت لغة الضاد في فلسطين.
وضاعت فلسطين..

لاجئون رصوا بمخيمات الشتات كعلب الكبريت وأكياس الخيش تفصل العائلات، وقضاء الحاجة بالعراء والبساتين! والحنين يزيد اشتعالاً وحرقة للعودة وفتح المفاتيح محطات موجعه، مصير حالك، عجز يصيب ملايين الفلسطيين المنكوبين ومستمرون بلعبة الموت والحياة.

ما أقسى الظلم عندما يتكرر وما أقوى الإنسان الفلسطيني الذي يلهث من ثقل الغدر! تلك حياته، اجتراح مصائب ونكبات المأساة أن بني وطني عندما انتكب وهاجر، ظن أن لحظة التهجير هي قمة المأساة والفواجع! ليكتشف لاحقاً غدر الزمان، وأن الماضي البعيد أرحم من الحاضر الجديد.

حﻴﻦ ﻳﻨﺘﻬﻲ رﺻﻴﺪ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻓﻲ روﺣﻚ، ﻋﻠﻴﻚ أن ﺗﻐﺎرﻫﺎ ﺑﻬﺪوء وﺻﻤﺖ… الحكاية بدأت في الخامس عشر من مايو/أيار سنة ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين.


حلت النكبه فغادروا مدينتهم قسراً وذعراً تحت أصوات القذائف وهراوات وبنادق الإرهاب وعصابات شتيرن والهاجاناه والأرغون.. جماعات فاشية، مسرفة مجرمة في القتل والإعدام، والمذابح والمقابر الجماعيه، بثت الرعب لإجبارهم على النزوح لإقامة دولة إسرائيل.

غادروها وهم يحملون المفاتيح الحديدية مع عقود وصكوك سجلات أراضيهم التي أحبوها.. غادروا مع جراحات نفوسهم مع ﺟﻤﺎل ذﻛﺮﻳﺎﺗهم التي بقيت دامغة في ﺷﻮارعهم ومنازلهم ومقاهيهم، واستبدلوها بالمخيمات، والتشتت والنفي والبؤس.

ثمانية وستون عاماً مرت على نكبتنا ونحن نواجه ويلات ومصائب ومؤامرات لا تعد ولا تحصى تحاك على هذا الشعب العصي، وأوضاع تؤول على المنطقة، تتناسى فيها أعظم وأعقد وأظلم قضية مر بها شعب انتهكت حرمته وسلبت حياته وأرضه ومياهه ومقوماته، إلا أن هذا لم ينَل من عزيمة شبابه وشاباته، من الصبر، ولم ينوس همتهم من الأمل، والمقاومة، والانتصار والعمل، لنيل الحرية رغم الأغلال والقيود.. رغم الانكسارات والانقسام.. بين الإخوة والأشقاء.

رغم كل ما حصل ويحصل على أرضنا الثكلى.. فما زالت يد العجوز قابضة على غصن الزيتون وحفنة التراب.. وما زال الطفل والتلميذ قابضاً على الحجر والقلم.. وما زالت يد المكان هي الشاهد على كسر الزمان.

حكايتنا ذات الحكاية.. أرض وشعب.. دم وشهيد.. مأسٍ وبطولات.. صراع وطلبات، انتفاضة وحرب وسلام.. حتى يعود الحق لأصحابه مهما طال الظلام.. ومهما أغلقت الأبواب.. ومهما زاد العذاب لا بد من الحساب.. سأستمر بالكتابة حتى تكتمل الرواية ولو.. طالت فصول القراءة، لن تغلق الستارة حتى يعود البيت لصاحب الحكاية، واللحن الحزين سيعزف نشيد الحرية والكرامة.

(آه يا جرحي المكابر، وطني ليس حقيبة وأنا لست المسافر، إنني العاشق والأرض حبيبة) محمود درويش.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد