في مدح الخروج على “الكتالوج”!

أنت حر طبعاً، لكن صدقني الحياة لا تعوض، لا تنتظر موقفاً مرعباً؛ لتدرك تلك الحقيقة البديهية، عِش حياتك كما تريدها أنت، لا وفق الكتالوج.. تحرَّر!

عربي بوست
تم النشر: 2016/05/13 الساعة 02:13 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/05/13 الساعة 02:13 بتوقيت غرينتش

لا ننتبه لجمال الحياة حتى نقترب من الموت أو يقترب هو منا، عندها تصبح الحياة غالية ونعرف قيمة كل لحظة فيها، تحت حد السيف، نعرف الحكمة، يعود إلينا صوابنا ونعرف ما "المهم" فعلاً في الحياة.

نرى جمال التفاصيل الصغيرة في الأمور الاعتيادية التي لم نكن نراها لأننا "مشغولين"!.. فتبدوا النجوم أكثر بريقاً، والزهور أكثر جمالاً ورقة، يبدو كل شيء وكأنه اكتسى جمالاً مفاجئاً، ولد مع هواجس الرحيل!

وربما برحيل عزيز لا عودة منه، نتذكر تلك الحقائق، فنعاهد أنفسنا أن نعيش الحياة ولا نؤجلها، أن نكون "حاضرين" في كل اللحظات التالية، نقسم أننا لن نفلتها، نتعهد لأنفسنا أننا لن ننشغل ثانية بالجري في سباق الحياة عن الحياة نفسها، ثم نعود.. وننسى!

كل لحظة من لحظات الحياة هي لحظة اختيار، وكل اختيار اختبار، ولسبب لا يعلمه إلا الله، لم نعد نتوقف كثيراً أمام تلك الاختبارات، أصبحنا نسير وفق "البرنامج المحدد" دون تفكير هل هذا ما أريده؟ هل يعبر عني؟ هل في هذا الاختيار ما يسعدني؟.. أصبحنا كالإنسان الآلي نسير وفق كتاب تعليمات التشغيل ولا نحيد عنه.

نظرة على أمر رئيسي في حياة الإنسان وسعادته كاختياره لعمله، العمل الذي يستهلك الجزء الأكبر من سنوات العمر، هل نفكر فيه جدياً؟ أقصد أبعد من كم من المال سأجنيه من هذا العمل؟ ودرجة "البرستيج" التي سيمنحني إياها في المجتمع؟..

أنسأل أنفسنا -جدياً- هل لهذا العمل قيمة حقيقية؟ قيمة أكبر من المال، والبرستيج؟! قيمة تشبعني أنا وترضيني؟.. وهو أمر مختلف تماماً عن أن يُرضي الناس عني؛ لأني ثري أو أشغل منصباً مرموقاً!

هل يستحق هذا العمل أن أفني فيه جل وقتي وعمري؟ هل يمنحني السعادة؟ لم نعد نسأل تلك الأسئلة، وإن سألنا فنادراً ما تكون هي الحاسمة لقراراتنا.

وربما اتهمنا من يسألها من الشباب بـ"الدلع"، أكاد أسمع مصمصة الشفاه معلنة تذمرها من أسئلة تبدو رفاهية في بلاد بلغت فيها نسب البطالة معدلات غير مسبوقة وفي تزايد.

أختلف جداً مع ذلك الرأي، وأرى أن البطالة المعلنة والمقنعة من أهم أسبابها غياب تلك الأسئلة، لا أكتب هنا دفاعاً عن الدولة التي لا توفر فرص العمل، لكن أكتب عن العقول التائهة التي لا تعرف ماذا تريد؟ وكيف تصل إليه؟ كيف تسعد؟

لا تدرك أهمية الدافع "الذاتي" الذي هو أساس التميز والنجاح، الدافع الذي يجعل "الرحلة" ذاتها ممتعة، وترتضي ببساطة أن تسير وفق "الكتالوج" الذي وضعه غيرها من عقود بعيدة، وربما كان وسيلة لتحقيق السعادة وقتها، وبرغم اختلاف الظروف ما زال السائرون وفق الكتالوج يتبعونه بلا تفكير!

أتذكر شاباً نابغة التقيته في عام 1999 وكنت أعمل وقتها استشارية بشركة للبرمجيات، كان نصف مصري ونصف كندي، لم يبلغ العشرين من عمره بعد، يدرس بالجامعة، ويعمل مبرمجاً، ربما هناك الآن مَن هو مثله، لكن في ذلك الزمان كان أمراً نادراً جداً أن تجد من يعمل في هذا المجال دون الحصول على شهادة جامعية، لفت نظري وقتها أنه لم يكن يعمل للمال، فقد كان من أسرة ثرية، ولكن لولعه بهذا المجال، وكان فعلاً متميزاً فيه، ورغم فارق سنوات الخبرة بيننا والتي كانت تبرر جداً أن أعرف ما لا يعرفه، كنت أشعر بضيقه -المحمود- إذا أغفل شيئاً، أو اقترحت عليه تعديلاً لم يخطر بباله، ليس ضيق المكابرة لأنه أخطأ، ولكنه عطش المعرفة وولع التميز.

كان يتعامل مع دراسته الجامعية بهدوء شديد لا عن استهتار.. فالمستهتر لا يعمل في هذه السن الصغيرة، لكن عن قناعة أنها "مكون" واحد من مكونات حياته وليس كل حياته، كان له كتالوجه الخاص الذي يكتبه لنفسه ومتقبل لنتائجه.

لم تكن أسرته سعيدة باختياراته، ولم يثنِه ذلك عن أن يسير بحياته وفق ما يسعده هو، والذي بدا لي "عين العقل" وإن خالف الكتالوج!

من أيام قليلة نشرت الواشنطن بوست، خبراً عن التحاق "ماليا أوباما" الابنة الكبرى للرئيس الأميركي أوباما بجامعة هارفارد، وقد سبق ذلك القرار ضجة إعلامية حول أي جامعة ستختارها الابنة لتكمل فيها دراستها. ونُقل عن أوباما وزوجته ميشيل أنهما نصحا ابنتيهما بألا تنبهرا بالأسماء البراقة وألا يكون الاسم هو المعيار الرئيسي للاختيار، حسمت "ماليا" الأمر وقررت الالتحاق بهارفارد.

استوقفني في الخبر أنها لن تلتحق بالجامعة مع بدء العام الدراسي، فقد قررت أن تأخذ إجازة من الدراسة لمدة عام، ورغم عدم صدور تصريحات من البيت الأبيض عما تنوي "ماليا" أن تفعله، فإنه من المتوقع أن يكون شيئاً متعلقاً بصناعة الأفلام لأن لديها اهتماماً كبيراً بها.

أغبط "ماليا" على قرارها وتفكيرها في "إبطاء" قطار الحياة، والتحكم في مساره، أُثمن قرارها أن تمنح نفسها حرية أن تمارس ما تريده فعلاً لمدة عام كامل، وعدم الانصياع للكتالوج!

ذكرني الخبر بمحاضرة قديمة من محاضرات تيد لستيفان ساجميستر وهو صاحب استوديو إنتاج شهير في نيويورك، قال ستيفان إنه كإنسان ناجح ومجتهد أنفق سنوات طويلة في الدراسة ثم في عمل متواصل وجهد كبير لينجح، ثم بدأ يلاحظ أن جودة عمله القائمة بالأساس على الابتكار والإبداع لم تعد كما كانت، وأصبح عمله مكرراً.

عندها قرر أن يغلق الاستوديو ويأخذ إجازة لمدة عام كامل، سافر فيها إلي "بالي"، عاد بعدها ستيفان بأفكار جديدة وطاقة إبداعية كبيرة فأعاد افتتاح الاستوديو وقدم أعمالاً متميزة.

وبعد تأمل في تلك الإجازة الطويلة وأثرها الإيجابي في إعادة روح الابتكار والإبداع إلى ستيفان أدرك أن:

الإنسان يؤجل أن "يحيا" حتى يتقدم في العمر ويدخل مرحلة الشيخوخة! نمضي أكثر من عشرين عاماً ندرس ثم ربما أربعين أخرى نعمل، ثم نصل إلى سن التقاعد وعندها نعطي أنفسنا حرية أن "نحيا"!

قرر ستيفان أن يغير "المألوف"، وأن يسعد بالحياة، قرر أن يسحب من سنوات التقاعد خمس سنوات ويستمتع بها وهو ما زال شاباً، بأن يأخذ عاماً كاملاً إجازة كل سبعة أعوام.

الأمر ليس رفاهية غير محسوبة على العكس، فقد أحسن ستيفان لعمله كما أحسن لنفسه بتلك الوقفة لالتقاط الأنفاس.

ما فعله المبرمج الشاب، وما يقترحه ستيفان وما قررته "ماليا"، هو عين العقل من وجهة نظري وإن خالف كتالوج "الجري" و"المنافسة" المحمومة.

هذا العام الذي اختار كل منهم أن يتوقف فيه عن الجري طوعاً، وأن يعيش الحياة ويرى جمالها، سواء بأن يعمل عوضاً عن أن يدرس، أو يمارس هواية، أو يسافر إلي بلد آخر، ليس عاماً مهدراً، لكنه عام "الشحن" الذي يمنح الإنسان حقه في أن يقرر لنفسه، حقه أن يحيا بلا ضغوط مفتعلة لم يختَرها.
التحليق بحرية لا يرهقنا مهما ارتفعنا في السماء ومهما طالت الرحلة، بل يمنحنا الطاقة التي تلزمنا لنكمل مشوار الحياة ونحن أفضل وأقوى، يحقق الإنسان المعجزات عندما يكون التحدي اختياره الحر بلا إجبار فعلي أو معنوي.

أعرف أن الأمر ليس بسيطاً ولا يناسب ظروف كل الناس، لكن هناك دائماً مجالاً لتطويع الفكرة وفق كل الظروف إذا أردنا وقررنا، وكان لدينا شجاعة تحمل مسؤولية القرار.

هناك من تمكنهم ظروفهم من التحرر ولا يمنعهم شيء أكثر من أن عيونهم مغمضة ويسيرون في الحياة وفق الكتالوج لا أكثر.

يفعلون المتوقع منهم، يخافون المجازفة، ولا ينتبهون هل يصل بهم قطار الحياة "الإكسبريس" إلى السعادة؟ هل هذا حلمهم؟ كثيراً ما نقيد أنفسنا بحجة المتطلبات المادية، وغالباً جزء كبير من احتياجاتنا المادية مفتعل وليس له أي سبب سوى اتباع "الكتالوج".

من ينهكون أنفسهم في العمل، يعوضون الضغوط النفسية بمشتريات سفيهة ربما ليسوا بحاجة لأغلبها. وكلما فكروا في إبطاء خطوات الجري لالتقاط الأنفاس تذكروا وتوهموا أن "المصاريف" تجبرهم على الاستمرار!
لا يرون أنها دائرة جهنمية، ولو تجرأوا وكسروها لكسرت! لكن السير وفق الكتالوج يمنحهم القبول من الناس، ويمنحهم شماعة لتعليق بؤسهم على "ظروف الحياة"، ويمنحهم راحة عدم التفكير، ويقيهم شر المخاطرة بالمجهول!

أنت حر طبعاً، لكن صدقني الحياة لا تعوض، لا تنتظر موقفاً مرعباً؛ لتدرك تلك الحقيقة البديهية، عِش حياتك كما تريدها أنت، لا وفق الكتالوج.. تحرَّر!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد