كنت في قمة سعادتي في الطريق إلى الشمال من تنزانيا؛ فقد كان الجو يتحول إلى الأبرد فالأبرد. شعرت بالسعادة لهطول المطر دون رطوبة، حتى ولو لم ينفعني معطف المطر كثيراً.
حان الوقت لأتأكد من أن لديَّ مساحة كافية على بطاقات الذاكرة في أجهزتي وأنَّها كلها مشحونة حتى آخرها؛ فمشاهدة فوهة بركاني "سيرينجيتي" و "غورونغورو" تجربةً لا تتكرَّر إلا مرة واحدة في العمر.
كانت حديقة "ميسيراني" للثعابين مكاناً رائعاً لقضاء الأيام الأخيرة في رحلتنا. فتحت الحديقة أبوابها منذ 23 عاماً واتخذتها أفواج من الناس مخيَّماً نظراً إلى موقعها المميز، وقواعدها أيضاً. يدير الحديقة زوجان يساعدان مجتمعهما بعيادتهما المجانية وتبرعاتهما للمدارس.
لم يكُن الطريق إلى المطعم يعكس المكان الذي يقع فيه. كانت الجدران مغطاة بقمصان تحمل كتابات بلغات مختلفة، منها المقطوع، والمتسخ، والجديد، والكبير، والصغير؛ وليس القمصان فحسب؛ بل إن هناك لوحة تقول بالعربية: "قِف"، وصور ومقتنيات رائعة. كانوا جميعاً يؤدون واجبهم: التأثير في كل من يدخل مطعمهم ويكون متحمساً بشأن السفر؛ فكان أفضل مكان يمكننا فيه قضاء ليلتنا الأخيرة سوياً.
تفرَّقنا إلى ثلاثة مجموعات في اليوم التالي. كنا ستة: "جاسمين"، و "كايت"، و "جايك"، و "فابي"، و "سارة"، وأنا. لقد أصبحنا أصدقاء حميمين في الأسابيع القليلة الماضية؛ فكنا نتشارك الحكايات، ونتجاذب أطراف الحديث الصادق. لم أكن لأتمنَّى صحبةً أفضل من تلك، حتى أنَّنا سمينا أنفسنا " سيرينجيتي سباغيتي ". كانت "سيرينجيتي" محمية يعيش فيها شعب "الماساي" على رعي الغنم. وتستخدم كلمة "سيرينجيت" لوصف "المنطقة التي تركض فيها الأرض للأبد "؛ وهي جملة قصيرة تصف بإيجازٍ وبلاغةٍ المشهد الطبيعي المُبهر الذي تقع عليه "سيرينجيتي".
كان الطريق من المدخل إلى قلب الحديقة طويلاً ووعراً. كنا متحمسين لمشاهدة الحياة البرية؛ فتوقفنا على أعلى نقطة لرؤية فوهة بركان "غورونغورو". كان "غورونغورو" بركاناً نشطاً منذ مليوني أو ثلاثة ملايين عام، قبل أن ينفجر ويُشكل بانهياره حفرةً هائلةً في الأرض يبلغ عمقها 610 أمتار. اُختيرت هذه الفوهة واحدةً من عجائب أفريقيا السبع؛ ورؤيتها من أعلى نقطة أكَّدت ذلك. لقد كان المسطح الأخضر الممتد بحجمٍ يبلغ 250 كيلومتراً ويحتل مكانةً خاصةً لديَّ باعتباره أجمل المسطحات الخضراء التي نظرت إليها في حياتي وأكثرها تناغماً، بالمترفعات الأفعوانية التي تحيطها والسحاب فوق رأسك مباشرةً.
أول ما رأيناه كان مجموعةً من الفيلة والجاموس ترعى في أرضٍ خصَّبتها المعادن الطبيعية، الأمر الذي يُفسر اسم "غورونغورو" الذي يعني "هدية الحياة ". إنَّ الأسماء في أفريقيا هي الأفضل.
في طريقنا إلى "سيريجينتي" بدأنا نلمح الزرافات، والحُمُر الوحشية، وكثير من الحيوانات الأخرى. مررنا بالتلال والحواف الضيقة حتى وصلنا إلى المدخل لنلتقط صورة جماعية؛ وبعدها أسرعنا إلى سيارات الجيب لنرى ما تحمله لنا "سيريجينتي".
إنَّ صناع فيلم "الأسد الملك " ذهبوا إلى "سيريجينتي" (وغيرها منا الأماكن ) واستلهموا منها المنظر الطبيعي الذي شاهدناه في الفيلم؛ لذا فقد كانت الزيارة مميزة حقاً بالنسبة لي لأني مهووسة بالفيلم أنا وأسرتي.
سمعت أنَّ "صخرة الفخر " في فيلم الأسد الملك قد جرى تصويرها هنا؛ لذا فلم أكن أستطيع الانتظار. وقبل أن ندخل، أخذ مرشدنا "حسين" يصرخ في جهاز الاتصال وفجأة أسرع ليتوقف بجانب مرتفعٍ صغيرٍ تغطيه شجيرات من جانبه. التصقت عيوننا بالمناظير المقربة، وظهر مرشدنا ببطء. كان هناك أسد يدور في المكان بأقصى قدرٍ من الثقة. راقبنا كل حركاته ونحن مشفقون مما يمكن أن يحدث، لكنه قرر في النهاية أن يذهب، وكذلك نحن.
ما لم نكن نعلمه هو أن هذا الوقت من العام هو موسم الهجرة السنوية للحمر الوحشية والظباء الأفريقية، وهما حيوانان يعيشان جنباً إلى جنب لتحقيق استفادة متبادلة؛ فالحمر الوحشية تتمتع بذاكرة قوية وتذكر طريق الهجرة، والظباء يمكنها شم الماء وحماية قافلة الهجرة.
لكني شعرت كما لو أنني لم يكن باستطاعتي رؤية نهاية هذه الأرض، كما لو أنها لا تنتهي في الحقيقة؛ فالسماء المعتمة والعشب كانا يلتقيان حتى يمتزجان. كان الآلاف والآلاف من الظباء والحمر الوحشية يقتربون من جهة اليسار ليرعوا. كلما نظرت إلى جهة كانت تلاحقني نقاط بيضاء وسوداء لا نهاية لها تغطي رقعة الحشائش المتسعة أمامنا.
هذه المرة عدنا إلى النوم في البرية والليل تملؤه أصوات غريبة حولنا. بعدها استيقظت لأبدأ اليوم التالي من البحث عن الحيوانات.
انطلقنا قبل شروق الشمس ولحقنا بالحيوانات الليلية. حدث موقف ما يزال يصدمني إلى الآن: أوقفنا سيارتنا بجانب مجموعة من سيارات الجيب لنشاهد غزالاً، لكننا أدركنا أنه يراقب أسداً على مسافة 20 متراً، ورأينا بعدها أسدين ذكرين جالسين يراقبان شيئاً ما. تحققنا من ذلك الشيء لنجد أنَّه رجل وامرأة يلعبان كرة السلة على بُعد 30 متراً أو أقرب من ذلك. أسرعنا إليهم لنحذرهم من أن الأسود تراقبهما، لكنهما رد بهدوء: "أجل؛ نعلم ذلك " دون حتى أن يشكرونا. إن الأسود تستطيع الجري بسرعة 25 متراً في الثانية الواحدة أثناء الصيد.
إن تفاصيل رحلة السفاري ستسلب عقلك لو ذكرتها، لكننا اقتربنا من مخيَّمنا في "غورونغورو" مع اقتراب الشمس من الغروب. وقد كان المخيَّم مكتظاً بأناس من جميع أنحاء العالم.
وبينما كان العشاء يستقر على الموائد رأينا فيلاً ذكراً على بُعد عدة أمتار منا، لكن لا شيء يدعو للقلق فقد كنا في الداخل. وبعدها أشعل مرشدونا ناراً لتبقينا دافئين قبل النوم، فتحلَّقنا حول آخر نار مخيمٍ لنا وتجاذبنا أطراف الحديث حتى رأينا شيئاً يقترب منا: قطيع من الجاموس الذي يُعَد أمن أخطر الحيوانات على سطح الأرض.
أختفى مرشدنا عن الأنظار واستمر الجاموس في الاقتراب وارتعدت فرائصنا. حتى النار لم تخيفهم. نظرنا جميعاً إلى "كولين" متسائلين: "ماذا نفعل؟ ". ردَّت: "ابقوا هادئين ولا تتحركوا قيد أنملة ". لم يمر الكثير من الوقت حتى صار الجاموس على بعد عدة أمتار منا، وذهبت "كولين" خلسةً لتجد أحد المرشدين. ووقف المُخيِّمون الآخرون أمام قاعة الطعام موجهين مصابيحهم وكاميراتهم نحونا ليلتقطوا صوراً. تسارعت دقات قلبي وكاد صدري يتمزق. حين صار الجاموس على بعد متر واحد منا جاء حارس المخيم مسرعاً حاملاً بندقيته ليحول اتجاه الجاموس بعيداً عنا.
حين وصلنا إلى آخر مخيَّم لنا بعد مغامرتنا في "سيريجينتي"، وقفت "كولين" لتدلي بآخر "خطاب عشاء "، ذكرت فيه الأوقات الرائعة التي قضيناها معاً، وصفَّقنا لها و لولو ، وفاجأتني مجموعتي بالتصفيق لي قائلين: "شكراً لكِ ولكل تعليقاتك المجنونة وأفعالك المضحكة دائماً.
في اليوم الأخير كنا مرتحلين إلى كينيا، حيث سيكون وداعنا. ربما كان الوداع هو أصعب ما في الرحلة؛ فحقيقة أنك لا تعرف متى سترى شخصاً صار كأحد أفراد عائلتك وتشاركتما الكثير من الذكريات هو أمر يفطر القلب.
أترى؟ حين تسافر يظهر جانب جديد من شخصيتك ربَّما لا تعرفه عائلتك نفسها، جانب شديد الهشاشة والقوة، جانب تُظهر فيه ذكاءك وغباءك معاً. إن الأمر كما لو أنك تزوجت لمدة 40 يوماً فقط. يمكنك أن ترى بوضوح كم تغير شخص ما بعد السفر. يصبح رفاقك في السفر كأصدقاء الطفولة الذين تربيت معهم منذ ولدت. إنها علاقة شديدة الحميمية والجمال؛ مما جعل عيناي تدمعان لعدة أيام بعدها.
كانت كينيا مكاناً للاسترخاء واستعادة الطاقة والثقة. كانت كل أحلامي تتلخص في سرير، وإنترنت، وبيتزا، وتلفاز لبضعة أيام، لكني كنت متشوقة للاستمرار. هذه المرة أسافر وحدي تماماً إلى رواندا وأوغندا، بلا خطة، ولا أصدقاء، ولا أي شيء.
** الصور من مدونة مريم حراز عن رحلتها إلى أفريقيا.. المزيد هنا، ويمكن زيارة حسابها على انستغرام هنا.
لقراءة الجزء الأول من هذه التدوينة يُرجى الضغط هنا
الجزء الثاني اضغط هنا
الجزء الثالث اضغط هنا
الجزء الرابع اضغط هنا
الجزء الخامس اضغط هنا
الجزء السادس اضغط هنا
الجزء السابع اضغط هنا
الجزء الثامن اضغط هنا
الجزء التاسع اضغط هنا<
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.