الصحافة.. اليوتوبيا التي تحولت إلى تراجيديا

كما تواجه الصحافة في كل العالم، انقراضاً كبيراً لما يمكن أن نسميه "الصحفيون الموسوعيون" الذين كانوا بمثابة الجيل الذهبي لهذه المهنة النبيلة، بفضل كثافة اطلاعهم وثراء ثقافتهم، وقوة ما يطرحونه من قضايا تهم الشأن العام، بأساليب مبتكرة ودقيقة في أهدافها

عربي بوست
تم النشر: 2016/05/11 الساعة 02:29 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/05/11 الساعة 02:29 بتوقيت غرينتش

يبدو أن "الهالة الخرافية" التي لطالما التصقت بالصحافة منذ نشأتها، والمرتبطة أساسا بـ"اليوتوبيا" التي شيدها الإنسان داخل عقله، بدأت دائرتها تضيق فعلاً وبشكل محسوس خلال العقد الأخير، بفعل جملة من المتغيرات والتغيرات العميقة التي طرأت عليها، ولعل أبرزها نزوع أصحاب النفوذ في بلدان كثيرة من العالم، إلى السيطرة والتحكم بشكل كامل على عدد من الصحف، سواء من حيث احتكار التأسيس والملكية، أو من خلال الاستحواذ الناعم أوالعنيف على عناوين صحفية كثيرة، وشراء ذمم الصحفيين ومؤسساتهم الإعلامية، زيادة على إلقاء المزيد من العراقيل في طريق الصحف والصحفيين لحجب المعلومات عنهم بهدف تغطية الحقائق، وخوفاً من افتضاح ممارساتهم غير الشرعية وتعرية مصالحهم السرية من طرف الصحافة.

وموازاةً مع تعرض الصحفيين للحبس في سجون الأنظمة المعادية للصحافة، أو حتى التصفية والقتل (67 صحفياً في العالم لقوا حتفهم عام 2015 بسبب نشاطهم المهني أو أثناء مزاولة عملهم، حسب اللجنة الدولية لحماية الصحفيين) في كثير من البلدان التي تشهد نزاعات مسلحة وحروباً طاحنة أو تعاني من عدم الاستقرار السياسي والصراع على السلطة، فإن الصحافة (الورقية) أيضاً تتعرض بدورها -كمهنة- لموت تدريجي ومحتوم بفعل سطوة مواقع التواصل الاجتماعي وارتباط أغلب سكان المعمورة بشبكة الإنترنت وتغير أساليب وعادات تلقي ونشر المعلومة، مما أدى إلى هجرة الكثير من العناوين "الكبيرة" إلى فضاء النشر الإلكتروني، بسبب تراجع الأعداد المليونية لقراء الطبعات الورقية والتكاليف الباهظة للطباعة وتقلص حجم الإعلانات، والتي كانت آخرها صحيفتين كبيرتين هما "الإندبندت" البريطانية التي تأسست سنة 1986، واعتبرت المطبوعة اليومية الوطنية، كما وصفت بأنها موضوعية وبعيدة عن التحيز السياسي، حيث لاقت رواجاً كبيراً بين قرائها، قبل أن تقرر وقف إصدارها الورقي في مارس 2016، أما الصحيفة الثانية فهي"الباييس" الإسبانية التي كانت تعتبر أكبر صحيفة في البلاد من حيث التوزيع، إلا أن هذا الأخير شهد تراجعاً مستمراً وهبوطاً بنسبة 15% العام الماضي ليصل إلى نحو 220 ألف نسخة، وطبعاً، لا يبدو بأن قائمة الصحف التي تنتهج هذا النهج ستختتم بشكل نهائي.

في عالمنا العربي، الوضع يميل إلى كونه أكثر قتامة ومأساوية، فالذي يبدو في الظاهر كأنه حرية تعبير، ما هو في واقع الأمر سوى شعار براق ومخادع ترفعه الأنظمة الشمولية والمستبدة، التي تميل إلى إظهار تعايشها وتسامحها مع الصحافة في دساتيرها وقوانينها، بينما لا تتوانى في ممارسة المضايقات على الصحفيين وسجنهم وخنق الصحف التي لا تدعم إديولوجية السلطة الحاكمة ولا تتبنى رؤيتها وممارساتها، أو تحاول كشف تجاوزات رجالها وممثليها في مختلف المناصب والرتب، ويصل الأمر ببعض هذه الأنظمة إلى إغلاق الصحف وسجن الصحفيين والاعتداء عليهم بوحشية، وممارسة ضغوطات شديدة على المؤسسات الصحفية لحملها على تغيير نهجها ووقف محاولاتها لنشر الحقائق وتنوير الرأي العام، بفضح الاعتداءات الممنهجة على مكتسبات الشعوب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

كما تواجه الصحافة في كل العالم، انقراضاً كبيراً لما يمكن أن نسميه "الصحفيون الموسوعيون" الذين كانوا بمثابة الجيل الذهبي لهذه المهنة النبيلة، بفضل كثافة اطلاعهم وثراء ثقافتهم، وقوة ما يطرحونه من قضايا تهم الشأن العام، بأساليب مبتكرة ودقيقة في أهدافها، وشجاعة أسطورية مكنتهم من ولوج العوالم السوداء للسياسيين ومراكز اتخاذ القرار، فنجحوا في سبر أغوارها واكتشاف أسرارها، وقدموا كل ذلك ضمن سياقات مرتبطة بواقع شعوبهم وتطلعاتهم، وبما يخدم المصالح الحيوية لبلدانهم والإنسانية جمعاء، ومنهم "دايفيد فروست" و"روبرت فيسك" و"توماس فريدمان" و"محمد حسنين هيكل" وغيرهم كثير.

تبدو الحاجة ملحة لإعادة بعث الروح في الصحافة من جديد، وبفلسفة ورؤية أكثر قوة، لمواجهة التحديات التي تهددها بالزوال، من خلال البحث عن أساليب جديدة لجذب القراء الغارقين في الفضاء الافتراضي، والبحث عن آليات مرنة وتحالفات صحفية ضخمة لمجابهة الضغوطات التي تمارسها الحكومات وجماعات المصالح عليها بغرض تكميم صوتها ووقف سعيها الدؤوب لكشف الحقيقة للرأي العام.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد