جاءت أمي فزعة جزعة إثر سماع صرختي ومناداتي إياها "وجو الحقيني يا عبير اللي هي أمي" دخلت الحمام ووجدتني أنظر لنفسي بجنون أمام المرآة لأخبرها بأن أول شعرة بيضاء قد ظهرت في رأسي اليافع رسولة عن جيش عريض من الشعر الأبيض سرعان ما سيحتل رأسي آجلاً أم عاجلاً.
تضحك أمي وتخبرني بأن الشعر الأبيض قد ظهر مبكراً برأسها قبل أن تتم الخامسة والعشرين مثلي، فأُخبرها بأن ذلك حدث لها بسبب عوامل الوراثة، أما شعري الأبيض بدأ يظهر ربما من الحزن أو من الغم، أو من الهم أو من مهنة التدريس؟!
ظهور " الشعراية البيضا" أثار بداخلي العديد من الهواجس؛ التقدم في العمر والخوف من قول سني الحقيقية ليس من بينها، ولكن خوفي من ألا أخلف شيئاً يستحق أو أترك بصمة في غيري هو أكبر مخاوفي الحياتية.
تظهر أول شعرة بيضاء برأسك ولا تدري هل كبرت قبل الأوان وفعل بك الزمن فعلته أم ما زلِت صغيراً ولكن الوقار أراد أن يختارك دون غيرك عبر الشعيرات الرمادية؟
إن أكبر ذنب اقترفناه هو أننا كبرنا مبكراً.. كبرنا حينما وجدنا دنيا العمل وأحقادها وضغائنها قد أخذتنا مبكراً.
كبرنا حينما تم استنزافنا داخلياً وخارجياً في مجتمع لا يقدر المجتهدين أو المبدعين.. في مطحنة تدور رُحاها لتسحب ضحايا جدداً يومياً بدعوى كسب لقمة العيش وإثبات الذات.
كبرنا حينما لم نستطع قضاء الوقت الكافي مع عائلاتنا.. حينما يتم استنزافنا في مختلف الأعمال في القطاعين الحكومي والخاص، ولا نجد عزاء سوى أن نقول لأنفسنا: غداً يوم أفضل!
الحقيقة أن الأفضل لا يأتي من تلقاء نفسه.. فطالما تركنا العمل يستحوذ علينا بأن نعمل في المنزل.. أن نجلب ضغوط العمل ومشاكله التي لا تنتهي للمنزل.. أن نستنزف كل دقيقة في الحديث عن هذا العمل في غير أوقات العمل بالمنزل وغير المنزل.. طالما لا نترك لأنفسنا المجال لأخذ إجازة حقيقية دون التفكير في العمل وأعبائه، طالما لا نفرح فرحة حقيقية كاملة بنزهة مع الأصدقاء ففي تلك النزهة نتفقد هواتفنا؛ لأن العمل ينادينا ونحن في أشد لحظات الاستمتاع.
فأنَّى لنا أن يأتينا الأفضل ونحن نتسابق في سقف العمل الذي رسمه لنا من شاءوا؛ لنظل وقود هذا العمل معتقدين أن التنافس سوف يحقق لنا الرخاء؟! في الواقع أنه يحقق الرخاء للرؤساء وليس لنا.
الأفضل لن يأتي طالما ارتضينا لأنفسنا أن تُسلب أبسط حقوقنا في الشكر والثناء على ما نفعل.. طالما ارتضينا أن الأعلى منَا يأخذ كل المجد الشخصي وينسى أن يثني على ما نفعل ويتناسى أن يعطي الحق لأصحابه.
الأفضل لن يأتي في مجتمع يقتل الحالمين الطامحين.. في دولة تسير بتقدم أو بتأخر كسلحفاة.. إننا جيل طموحه قاتله.. لا نملك سوى أن نكتب بضع كلمات عبر مواقع التواصل لننفس عن طاقاتنا في الغضب من طاحونة العمل التي تؤزنا أزاً ولا تطور قدراتنا العقلية في شيء، وإنما تطور قدراتنا في أن نكون سليطي اللسان إثر السب واللعن على نفعل ويستنزفنا.
فأين الفعل الحقيقي في التغيير؟ متى نستفيق من دوامات العمل التي تجعلنا لا نطيق الحديث مع عائلاتنا؛ لأننا صباحاً ومساء قد تم اغتيال عقولنا وجهودنا؟!
نلتقي مع الأصدقاء ويشكو كل منا حاله للآخر؛ لتظهر لنا حقيقة مفادها أن مصر والعمل بها يقتل أجمل ما بداخلنا "وإنه محدش مرتاح ولا هيرتاح"، فذلك العمل يجعلنا أكثر عصبية.. أكثر حساسية.. أكثر نقمة على وضعنا.. أكثر غضباً على من يستطيعون "كروتة العمل بالمصري" وأدائه على غير ما يرام، ومع هذا يفلتون من العقاب، ولكننا إذا فعلنا مثلهم ربما تقوم الدنيا ولن تقعد!
والطريف أننا لن نكون مثل أولئك "المكروتين المهملين" ولن نستطيع؛ لأن ضمائرنا لن تسمح لنا .. حتى ضمائرنا تعذبنا هى الأخرى.
الحزن كل الحزن هو أن تمضي الأيام سريعة كعادتها دون أن أفعل شيئاً يستحق أن يُروى.. دون أن أترك بصمة إيجابية في الآخرين تجعلهم في حال أفضل.. خوفي أن تمضي الأيام وأنا ترس أو قطعة حديد يمكن استبدالها في أي وقت في مصنع مليء بالآلات!
هاجسي أن تكثر الشعيرات البيضاء وتحتل سواد رأسي دون أن أفعل شيئاً مهماً ودون أن أحيا كما أريد، وأحقق ما أتمناه.. هاجسي أن يأتي العام القادم وأنا على حالي أعد تلك الشعيرات ومدى سرعة تكاثرها مقارنة بسرعة تحقيقي لأحلامي الوردية.. أكبر حزني أن أندم لاحقاً على أشياء تمنيت فعلها في مرحلة الشباب ولم يعد هنالك جدوى من فعلها في مرحلة أخرى.
ويسألونك عن ارتفاع معدلات الانتحار في مصر!
ويسألونك عن سبب عزوف الشباب عن كل ما له علاقة بالسياسة أو الاقتصاد أو العمل في مصر!
ويسألونك عن سبب غضب الشباب إزاء مؤسسات الدولة في مصر!
ولم يسألوا يوماً عن أن العاطل قاتله عقله وقلة حيلته، والعامل قاتله رب العمل!
كل تلك الهواجس هاجت بعقلي كصور متتابعة في فيلم تم تسريع لقطاته..
وفي النهاية سألتني أمي: متى ستصبغين؟
أجبت: لما باقي أخواتها يطلعوا ويحتلوني!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.