لا شك أنَّ الاعتقاد بالجبر والإكراه له مساوئ كثيرة أكثر مما يمكن أن يتخيله الكثيرون، فمَن يعتقد أنَّ الله قد فرض عليه الفشل في شتى أمور حياته صغيرة كانت أو كبيرة يؤدي إلى السقوط في وادي من المهالك التي لا تُعد ولا تُحصى، ويبدو أنَّ هذا الاعتقاد الباطل قد تسرب إلى أنفس وعقول نسبة كبيرة من المسلمين اليوم، وقد حارب العلماء على مر الزمان هذا المعتقد الفاسد، الذي هو بكل بساطة يُخالف صريح القرآن ومفاهيمه الأساسية، التي لا تحتاج إلى جهد كبير للانتباه لها وفهمها أثناء ترتيله.
أود اليوم أن أختم فكرة القضاء والقدر والجبر والإكراه بخلاصة نافعة سهلة الاستيعاب لتبقى في العقول، فما يلي قد يكون من أهم مساوئ الاعتقاد بانعدام الاختيارات في الحياة:
١) إساءة لله:
عندما يعتقد الإنسان أنَّ الله هو الذي يجبر عباده على أفعالهم ولا يترك لهم الخيار، فهو بذلك يُسيء لخالقه ويُنزِّل من قدره -والعياذ بالله- لأنه ينفي عنه صفات الحكمة والعدل التي أثبتها لنفسه في القرآن، ونسب إليه صفات أخرى سيئة نفاها الله عن نفسه بقوله: {وَأَنَّ اللَّه لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيد}، بل أسقط معنى يوم القيامة؛ إذ كيف سيُحاسِب إلهٌ عباده ويعذبهم في النار على أمور أُكرهوا عليها ولم يكن لهم فيها أي خيار؟ لا يوجد فساد أكثر من مثل ذلك الاعتقاد.
٢) الإعراض عن الله:
من أهم تلك المساوئ التي تنتج عن هذا الاعتقاد، هو التحامل على الخالق وسوء الظن به والإعراض عنه ظناً بأنه هو مَن قدَّر هذا الضرر رغبة منه لإيذاء عباده وتعذيبهم، يقول الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}، ويقول أيضاً: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة}.
٣) إنعدام المسؤولية:
يغيب الشعور بالمسؤولية تحت غمامة الاعتقاد بالجبر والإكراه، فالإنسان الذي يؤمن بأنه لا يملك قدَرَه ولا يمكنه الاختيار، يرى أن كل شيء قسمة ونصيب من الله الذي أجبره على القيام بما يقوم به في حياته، خصوصاً فيما يخص القرارات المصيرية والهامة كالزواج والدراسة والعمل والبحث عن الرزق، وهذا شعور طبيعي لأي إنسان، فلماذا يكون الإنسان مسؤولاً عن أمور ليست ضمن قدراته واختياراته؟ وهكذا سيبقى ينفي مسؤوليته عن تحمل أي مشكلة تطرأ على حياته أو قرار مصيري لم يحسن اختياره.
٤) توقف العقل:
عندما ينتفي الشعور بالمسؤولية ويشعر الإنسان أنه لا يملك زمام أمره ولا يمكنه أن يختار، يتوقف العقل تلقائياً عن العمل، فعملية التفكير مرتبطة بالشعور بالمسؤولية والرغبة في إيجاد حلول للمشكلات القائمة في حياتنا، الأمر الذي سيؤدي إلى غياب القدرة على رؤية تلك الحلول وتطبيقها، فلماذا الاجتهاد بالتفكير ما دام الله قد دبَّر هذا الفشل مُسبقاً؟ الرضى هو الحل ولا ينبغي مخالفة إرادة الله والقدر الذي أنزله.
٥) توقف السعي:
بعدما توقف العقل عن العمل وأصبح الإنسان داخل صندوق أسود يندب حظه، سيتوقف السعي ويغيب الاجتهاد، فلماذا الاجتهاد في التخطيط والسعي للتغيير ما دامت أقدارنا مفروضة علينا ولا مجال لصنعها واختيارها؟ كيف يمكن أن يتسنى للإنسان السعي في مناكب الأرض وهو لا يرى الحلول التي غابت عن عقله؟
٦) اعتياد الفشل:
إذا توقف السعي سيفشل الإنسان لا محالة، الأمر الذي سيؤدي للتقلب بين ثنايا الفشل والاعتياد عليه، حتى يُصبح أمراً طبيعياً يعتاده الإنسان، فيُصبح الفقر عادة والرضى به قربة إلى الله، وحتى الهزيمة تُصبح كذلك، وبهذا الاعتياد يُصبح النجاح والغنى والنصر أحلاماً لا يمكن تحقيقها؛ لأنه قَدَرنا أن نكون كذلك وأن نحيا كذلك، ليواسي الإنسان نفسه بالنصيحة التي يرددها الجميع: (اصبر، فما عند الله خير وأبقى!).
٧) ضياع الحقوق:
ماذا يحدث بعد اعتياد الفشل؟ ستصبح الحقوق ضائعة مُستباحة، وسيصعب على الإنسان الذي يشعر بالجبر والإكراه أن يُنافح عن حقوقه في الدينا، سواء كانت حقوقاً مادية أو معنوية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، عندما آمنت المرأة ورضيت بالجبر والإكراه في بعض الثقافات العربية… سُلبت حقوقها، الأمر الذي أدَّى إلى الكثير من المفاسد التي عانت منها أمة بأكملها، ولم تطالب المرأة بحقوقها التي كفلها لها الإسلام حتى تَغيَّر المعتقد وتَصحَّح الإيمان.
٨) الرضى بأي شيء:
عندما تضيع الحقوق… ماذا يحدث؟ يرضى الإنسان بأي شيء، فبما أنَّ أمور الحياة مُقدَّرة علينا مِن الله وما علينا إلاَّ انتظار حدوثها، سيرضى الإنسان بأي شيء يحدث في حياته، ولن يُكلِّف نفسه مهمة تغيير تلك الأمور أو تحسينها، واسأل نفسك عزيزي القارئ، هل إذا رضيت بأي شيء في حياتك سيكون لحياتك أي قيمة أو معنى؟ ستختفي بهجة الحياة ومتعتها لتتحول إلى عذاب، ولن يعود لها أي قيمة، والموت وقتها أفضل.
٩) الحقد على المجتمع:
الأمر الذي سيتولد مباشرة بعد الرضى بأي شيء في الحياة هو الشعور بالحقد على المجتمع؛ لأنَّ الإنسان وقتها سيرى نِعَم الله على عباده الناجحين، أولئك الذين صَلح اعتقادهم واستقام إيمانهم وحسن ظنهم بربهم وأيقنوا أنهم مسؤولون عن خياراتهم وفهموا قوله سبحانه: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُم}.
١٠) استحلال الحرام:
أسوأ نتيجة يمكن أن تحدث جرَّاء الحقد على المجتمع هو استحلال الحرام بشتى أنواعه، سواء كان حراماً معنوياً أو مادياً، ومن الطبيعي جداً أن تنقلب موازين الحلال والحرام، فالحاقد لن يجد ما يمنعه من أن يحسد الناجح على نجاحه، ولن يجد ما يحول بينه وبين سرقة أموال الذين عملوا وكسبوا أرزاقهم بجهدهم، ولن يتوانى عن جريمة مثل الزنى؛ لأنَّ الله هو مَن قدَّر عليه ألا يكون له زوجة وهو مَن فرض عليه كل أفعال الخير والشر، وهو مُقتنع أنه ضحية ذلك الإكراه.
برأيك عزيزي القارئ، هل يمكن لمُعتقد بهذا الشكل أن يَكونَ مُنزَّلاً من عند الله؟ هل يمكن لدين أن يُروِّج لمثل هذا المعتقد؟ دينٌ يدَّعى أصحابه أنهم آخر الديانات السماوية وأنهم أصحاب رسالة للعالمين؟ بل هل يمكن للحياة أن تستوي بمثل ذلك؟ أترك لكم الإجابة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.