لا نستطيع تسليمكم المكالمات لأن ذلك انتهاك صريح للقانون والدستور".. كانت هذه الجملة كفيلة بإعلان إيطاليا في 8 إبريل/ نيسان الماضي، وقف التعامل مع الوفد المصري المؤلف من شخصيات أمنية وقضائية، وعودتهم إلى القاهرة، بل واستدعاء السفير الإيطالي في مصر للتشاور.
لكن الموقف الذي دافع عنه النائب العام المساعد مصطفى سليمان، معلناً رفض مصر بشكل قاطع طلباً إيطالياً بالحصول على سجل مكالمات هاتفية للمواطنين، تتعلق بقضية مقتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني، "لأنها تخالف الدستور والقانون"، تحول إلى موافقة ونفاذ بعد أقل من شهر واحد.
إذ قررت مصر في النهاية أن تلبي طلب إيطاليا، وأعلن التلفزيون الرسمي الإيطالي، أن النيابة العامة في روما كشفت الأربعاء 4 إبريل/نيسان 2016 تسلمها سجلات هاتفية لـ 13 مواطناً مصريا، والأمر نفسه أكدته وكالة آكي الإيطالية للأنباء التي أضافت بأن سجلات المكالمات، يمثل جزءاً صغيراً من طلبات إيطاليا، وشددت على صحة الخبر أيضاً صحيفة "il fatto quotidiano"
كما ذكرت مصادر قضائية لـوكالة أنباء "رويترز"، أن مصر سلمت المحققين الإيطاليين بعض سجلات الاتصالات الهاتفية التي طلبوها، وأضافت مصادر أخرى للوكالة أمس الجمعة، أن مصر سلَّمت سجلات الهاتف المحمول الخاص برئيس نقابة الباعة الجائلين في مصر إلى المحققين الإيطاليين.
هل اضطرت مصر للتغاضي عن الدستور من أجل إرضاء إيطاليا، وإذا كان هناك تصريح قضائي باستخدام المكالمات فهل يجوز تسليمها لدولة أخرى؟
المادة 57 من دستور 2014 تنص على أنه:
"للحياة الخاصة حرمة، وهي مصونة لا تمس، وللمراسلات البريدية، والبرقية، والإلكترونية، والمحادثات الهاتفية، وغيرها من وسائل الاتصال حرمة، وسريتها مكفولة، ولا تجوز مصادرتها، أو الاطلاع عليها، أو رقابتها إلا بأمر قضائي مسبب، ولمدة محددة، وفي الأحوال التي يبينها القانون، كما تلتزم الدولة بحماية حق المواطنين فى استخدام وسائل الاتصال العامة بكافة أشكالها، ولا يجوز تعطيلها أو وقفها أو حرمان المواطنين منها، بشكل تعسفي، وينظم القانون ذلك".
الإذن القضائي
الفقيه الدستوري الدكتور "نور فرحات"، أكد لـ"هافنتغون بوست عربي، أن قانونية هذا التصرف يحكمها معياران لا ثالث لهما: أولاً أن يكون هناك إذن قضائي بتسجيل المكالمات وهنا يعتبر القرار صحيحاً، لأن القانون كفل تسجيل المكالمات لاحقة والتحفظ على مكالمات سابقة في حال اشتبهت جهات التحقيق في أشخاص معينين، وإن لم يوجد هذا الإذن يكون التصرف مخالفاً.
المعيار الثاني هو وجود اتفاقات تعاون قضائي بين مصر وإيطاليا، حتى تستطيع مصر تسليم هذه المكالمات لدولة أخرى، معلناً عدم علمه بوجود مثل هذه الاتفاقية، وإذا لم توجد يصبح التصرف أيضا مخالفاً للقانون.
بينما كان لـ"حسين حسن" الخبير القانوني ونائب رئيس منظمة الاتحاد المصري لحقوق الإنسان، وجهة نظر أكثر تشدداً إذ اعتبر التصرف "مخالفة صريحة للدستور".
انتهاك للدستور
ويرى حسن أن هذا تسليم المكالمات انتهاك لمادة الحياة الخاصة بالدستور، مشيراً إلى أن الدولة قد تبرر ذلك بدعوى الأمن القومي، وهو تعريف فضفاض تستخدمه الدولة، "للتعدي على الحرية الشخصية وتجاوز الدستور" بحسب رأيه.
مضيفاً "وإلا فلماذا رفض الوفد المصري في إيطاليا تسليم المكالمات سابقاً، ثم عاد وأيد هذه الخطوة في محاولة لإثبات حسن النية".
وأكد حسن أنه حتى في حال صدور إذن قضائي بتسليم التسجيلات، فيكون ذلك في نطاق الدولة ولا يسمح بتسليم المكالمات لدولة أخرى، فالتحقيقات تجرى في مصر، وإذا أرادت إيطاليا متابعتها يكون ذلك من خلال سفيرها بمصر كمدّع بالحق المدني.
أما "طارق الخولي" أمين لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان، فيرى أن قانونية تسليم هذه المكالمات يتوقف على وجود الإذن القضائي من عدمه، إذ إن وجوده يؤمن القرار من شبهة المخالفة الدستورية، واعتبر أن الإذن القضائي كافٍ لتسليم هذه المكالمات لدولة أخرى.
على صعيد آخر أوضح الخولي أن أعضاء البرلمان التقوا بالكثير من الوفود الإيطالية في أكثر من محفل، وكانوا دائماً يشددون على أهمية العلاقات مع مصر وتاريخيتها وحرصهم على استمرار العلاقات.
رغبة في تجاهل الأزمة
وتابع الخولي: "بطبيعة الشراكة المتوسطية، لا يمكن أن تتعرض هذه العلاقة لأي هزات، وهناك اتجاه مصري وإيطالي لتجاهل الأزمة والحفاظ على العلاقات".
العميد "محمود قطري" الخبير الأمني، بدوره اعتبر تسليم المكالمات غير مخالف للدستور، لأنه حتى الحياة الشخصية والمنزل والشخص نفسه يجرى تفتيتشه بإذن من النيابة العامة، "والنيابة العامة لا ترفض تفتيش المنازل أبداً، وأصبح الطلب مجرد روتين، والأمر نفسه ربما ينطبق على تسجيل المكالمات".
المشكلة كما يراها الخبير الأمني تكمن في التردد المصري الذي أثار الشك في أن تكون عناصر تابعة للشرطة أو المخابرات ارتكبت الواقعة، متسائلا: "لما إحنا عارفين إنهم هيطلبوا المكالمات تاني وهتسلمها ليه نرفضها من الأول ونخلي الكل يشك فينا".
وذكر قطري أن اكتمال التحقيقات وحده هو الكفيل بقطع الشك باليقين وإغلاق هذا الملف.
وتعرضت العلاقات بين إيطاليا ومصر لتوتر كبير عقب اختفاء الباحث الإيطالي الذي يسعى لدرجة الدكتوراة جوليو ريجيني في 25 يناير/كانون الثاني الماضي أثناء توجهه لمقابلة أحد أصدقائه، ثم العثور على جثته في 3 فبراير/شباط ملقاة في طريق صحراوي.
وأشارت الصحف ووسائل الإعلام الإيطالية بشكل مباشر إلى تورط الأجهزة الأمنية في مصر في مقتل ريجيني.
وساهم في تعميق الشك تغير الرواية الرسمية لملابسات مقتل الشاب الإيطالي التي بدأت بإصابته في حادث تصادم بالسيارة، ثم مشاركته في حفل جنسي للمثليين، وأخيراً تورط عصابة في سرقة متعلقاته وقتله.
فيما طالب البرلمان الأوروبي السلطات المصرية في 10 مارس/ أذار الماضي بتوفير تحقيق مشترك "سريع وشفاف ومحايد" في قضية ريجيني.
وفي 24 مارس/ أذار قتلت قوات الشرطة المصرية 5 أفراد اتهمتهم بتكوين تشكيل عصابي تخصص في خطف الأجانب وبالمسؤولية عن مقتل ريجيني، إلا أن الرواية لم تقنع الإيطاليين، حيث رأوا أنه لم يكن هناك مبرر لدى اللصوص لتعذيب الشاب بهذا الشكل الذي تسبب في تهشيم جمجمته وبتر أحد أصابعه وجروح قطعية وخلع للأظافر وغيرها.