الطيبون.. بين نذور المحبة وعقود الإذعان!

الشخصية الخيرة هي شخصية مثالية في تصرفاتها وتوقعاتها من نفسها.. تشعر بمسؤولية نحو المحيطين بها.. ولا يقتصر الأمر على مساعدة الضعيف والمحتاج.. بل يتعداه إلى شعور بمسؤولية في "تعليم وإرشاد" غيرها.. وقد تتطوع لحل مشكلات من حولها.. هي شخصية دافئة ينجذب الآخرين إلى دائرتها لأسباب تختلف باختلاف احتياجاتهم منها.

عربي بوست
تم النشر: 2016/05/06 الساعة 03:27 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/05/06 الساعة 03:27 بتوقيت غرينتش

لرابعة العدوية، الشاعرة الصوفية، مقولة شهيرة تقول فيها: "اللهم إني ما عبدتك طمعاً في جنتك.. ولا خوفاً من نارك، ولكني علمت أنك رب تستحق العبادة"

والمعنى أن عبادتها لله عبادة مخلصة ومنزهة عن كل غرض.. العبارة جدلية يختلف حولها الكثيرون، ولا أنوي مناقشتها من منظور ديني، ولكن من منظور منطقي، هل يمكن أن يسمو الإنسان فوق ذاته، ويستطيع البذل فعلاً بلا مقابل، كما عبرت رابعة العدوية؟.. عندما يضحي الإنسان براحته أو ماله أو وقته لغيره ولا يطالبهم بالمثل هل هو فعلاً يبذل كل ذلك بلا مقابل؟!

العطاء بلا مقابل له علاقة بالتركيبة النفسية والشخصية للإنسان.. فوفق تصنيف جونز هوبكنز للشخصيات..

الشخصية الخيرة هي شخصية مثالية في تصرفاتها وتوقعاتها من نفسها.. تشعر بمسؤولية نحو المحيطين بها.. ولا يقتصر الأمر على مساعدة الضعيف والمحتاج.. بل يتعداه إلى شعور بمسؤولية في "تعليم وإرشاد" غيرها.. وقد تتطوع لحل مشكلات من حولها.. هي شخصية دافئة ينجذب الآخرين إلى دائرتها لأسباب تختلف باختلاف احتياجاتهم منها.


ومن أهم خصائص الشخصية الخيرة بطبيعتها أنها لا تفعل شيئاً سعياً وراء المقابل.. وتشير الدراسات النفسية إلى أن لهذا السبب بالذات.. تستفيد هذه الشخصية من العائدات النفسية والمعنوية والاجتماعية الإيجابية لفعل الخير أكثر من غيرها.. وكأنما "النية" مكيال الثواب!

فقد أثبتت الأبحاث والدراسات العلمية أن فاعل الخير، الباذل من نفسه وماله ووقته، تسكن روحه مشاعر الرضا عن النفس والفخر بها والثقة فيها، مما يحسن من صحته النفسية ويؤثر بطريقة مباشرة على صحته الجسدية.. وينال محبة وتقدير من يساعدهم واهتمامهم والتفافهم حوله، ويتحينون الفرص لرد الجميل بطريقة أو بأخرى، كذلك يحظى باحترام وتقدير مجتمعه.

وإن كان متديناً تزايد شعوره بأنه إنسان صالح قريب إلى الله بفعل الخير، مستحق للثواب، إن لم يكن في الدنيا ففي الآخرة.

أليس كل ذلك "مقابل"؟!.. أليس في ذلك أضعاف أي مال أو وقت أو جهد بذله الإنسان تطوعاً؟!

ومن الباعث على التأمل والتفكير تلك الدراسات النفسية: التي أثبتت أن من يتقمص دور الشخصية الخيرة أو يحذو حذوها سعياً وراء منافع شخصية سواءً كانت اجتماعية أو معنوية، لا يحصل على نفس درجة الإشباع التي تشعر بها الشخصية المجبولة على الخير والعطاء بطبيعتها..

هناك فرق شاسع بين من يسعى لإسعاد غيره، فيكون ذلك سبباً لسعادته، وبين من يسعى لإسعاد نفسه بخدمة غيره..

ولا عجب في أن تكون استفادة الأول أكثر رغم عدم سعيه لذلك، واستفادة الثاني أقل رغم سعيه الحثيث، ففي قرارة كل منهما تقبع الحقيقة، التي لا يعلمها سواه، وهي وحدها التي تضاعف أو تخصم من سعادته.

ذكرتني تلك الدراسات بكثيرين ساعدتهم -أو ساعدوني- ووقفت بجانبهم أو وقفوا بجانبي، واكتشفت أن للتعاملات الروحية مقابلاً وعملات معنوية خاصة، تتجسد في مشاعر التفاهم والاهتمام والود أو التقدير والعرفان بالجميل أو المساندة.. ويختلف "المقابل" باختلاف الموقف.

ففي العلاقات السوية يتم تبادل أدوار من يعطي ومن يأخذ حسب الموقف والاحتياج.. فلا توجد قائمة أسعار لعطاء الإنسان ومشاعره!

الأمر أشبه برقصة ثنائية، يتحرك فيها الطرفان دون قائمة "تعهدات مسبقة" أو "توقعات جامدة".. حركة تلقائية، هذا يتقدم ذاك ويتأخر، بانسيابية وطبيعية، ولو كانت غير ذلك لكانت رقصة باردة وسيئة وغير ممتعة.

وعلى الضفة الأخرى تنتهي علاقات؛ لأنها قامت على الأخذ بلا "مقابل"..

إذا شعر من يعطي أنه ضحية استغلال، عندها يصبح العطاء مؤلماً، لا يستمر فيه إلا هواة تعذيب الذات، وحتى عندها يصبح العذاب هو المقابل الذي ارتضاه لنفسه!

إذا شعر من يعطي أنه "مُطالب" لم يعد الأمر عطاءً، بل قهراً وإجباراً، وإن كان معنوياً.

إذا شعر من يعطي أن حدود نفسه مستباحة.. وقته غير مُقدر.. وجهده مهدر.. ويتم التلاعب به.. بين ضغوط مطالبات.. وتشويه.. وتنغيص لإشعاره بالذنب.. فالاختيار الأمثل هو قطع تلك العلاقة بلا ذرة شعور بالذنب!

المنطق والدراسات العلمية تؤكد أن لكل شيء مقابلاً.. وإن كان لأهل العطاء تعاملاتهم وعملاتهم الخاصة التي لا يفهمها سواهم..

وشتان بين عطاء اختياري وفاء بنذور المحبة وروابطها.. وبين عقود الإذعان القائمة على المطالبات.. المطالبة تُشين من يطالب وتصمه بالاستغلال، وتشين من يرضخ للابتزاز، فهو إما خانع وإما منافق.

أن تعطي ما لا تريد استجابة للضغوط هي خيانة لنفسك، وعدم احترام لذاتك.

لكل شيء مقابل، قد يكون من الدقة أوالرقة أوالبساطة فلا يخطر على البال أنه "مقابل"، قد يكون مجرد ابتسامة شكر، أو نظرة إعجاب وتقدير، أو زفرة راحة تخرجها من صدرك وأنت موقن أنك "عملت اللي عليك".

كل ذلك وغيره الكثير صور لـ"مقابل" العطاء، الذي من دونه لا يستمر، ومن يطالبك بغير ذلك "أناني" ومحترف ألعاب نفسية، ينسل من دائه ليلقي عليك بجُرمِه فلا تكترث ولا تخضع، وتمسك بحريتك أن تعطي من تشاء ما تشاء وقتما تشاء، ولست مديناً لأحد، أياً كان بتبرير قراراتك!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد