تخيم أجواء من التوتر والسخونة على أجواء الحملات الانتخابية في سباق الأمتار الأخيرة قبيل انتخابات عمدة العاصمة البريطانية لندن المقرّر إجراؤها الخميس المقبل.
واشتعلت حدة المنافسة بين مرشحي الحزبين الكبيرين في البلاد العمال المعارض والمحافظين الحاكم ووصلت إلى كتابة مرشح المحافظين زاك غولدسميث مقالاً في صحيفة الديلي ميل محذراً من انتخاب مرشح العمال المسلم صادق خان وتسليم أعظم عواصم العالم إلى من يرى أن الإرهابيين أصدقاؤه المقربون، على حد وصفه، واضعاً صورة من تفجيرات لندن عام 2005.
الأمر الذي لاقى استنكاراً واسعاً ويأتي في إطار حملة مضادة لخان تحاول الربط بينه وبين متشددين باستخدام خلفيته الدينية كمسلم.
مفارقات الانتخابات
على جانب آخر تشهد هذه الانتخابات عدة مفارقات. أولها أن استطلاعات الرأي العام تبرز تقدماً ملحوظاً لصادق خان على منافسه زاك غولدسميث. ولأول مرة يقترب مرشح مسلم من هذا المنصب في واحدة من أهم العواصم العالمية ومركز رئيسي للمال والأعمال.
وينحدر خان من أصول باكستانية، وهو نجل لسائق حافلات مسلم، نشأ وتربى في مساكن شعبية مملوكة للبلدية جنوب لندن. وقد بدأ حياته السياسية في حزب العمال، وكان من أصغر أعضاء المجالس المحلية حين فاز بعضويتها وعمره حينئذ 23 عاماً. وتدرّج في المناصب السياسية حتى حقق الفوز لعدة دورات برلمانية متتالية كنائب في مجلس العموم البريطاني عن منطقة توتنغ جنوب لندن.
ووصل إلى مناصب منها وزير دولة لشؤون المواصلات وأخيراً لمنصب وزير العدل في حكومة الظل المعارضة لحزب العمال. وهو المنصب الذي يؤهل شاغله عادةً لتولي حقيبة العدل في الحكومة الفعلية في حال أحرز الحزب الفوز في الانتخابات النيابية. كان هذا قبل أن يرشح نفسه لمنصب عمدة لندن ويحوز على ثقة أعضاء الحزب ليمثل الحزب رسمياً في هذه الانتخابات. وقد درس صادق خان القانون ويعمل محامياً في مجال حقوق الإنسان.
أما المفارقة الثانية فهي أن مرشح حزب المحافظين الحاكم زاك غولدسميث يحظى بدعم شخصيات مسلمة باكستانية وحقوقية شهيرة.
فهو شقيق جميمة خان، الزوجة السابقة للاعب الكريكيت الباكستاني الشهير عمران خان والذي لا تزال تحتفظ بلقبه في اسمها. وهي محامية معروفة اشتهرت بدفاعها عن القضايا الحقوقية وكانت أحد الذين دفعوا كفالة للإفراج عن جوليان أسانج حين مثل قبل عدة سنوات أمام القضاء البريطاني.
وتوقع كثيرون أن تصطف خلف المرشح العمالي الذي تشاركه التوجهات السياسية والحقوقية نفسها، لكنها خالفت هذه التوقعات وأعلنت تأييدها لأخيها زاك. الأمر نفسه فعله طليقها عمران خان، ذو الشعبية الكبيرة في بريطانيا وباكستان، حيث أعلن دعمه لغولدسميث في مواجهة صادق خان ذي الأصول الباكستانية.
ويمثل مرشح المحافظين خلفية اجتماعية مغايرة تماماً للتي جاء منها صادق خان. فهو نجل لمليونير ونشأ في أسرة معروفة الثراء.
إلى جانب أنه نائب بمجلس العموم البريطاني عن منطقة ريتشموند جنوب غربي لندن وهي منطقة تمركز للطبقة العليا والأثرياء. ويراهن غولدسميث على ما يراه نجاحات اقتصادية وفي جلب الاستثمارات وتوفير وظائف أحرزها عمدة لندن الحالي بوريس جونسون من حزب المحافظين، والذي شغل المنصب لدورتين متتاليتين على مدار السنوات السبع الماضية. إذ يرى المرشح المحافظ في انتخابه استمراراً لهذه النجاحات.
كما يعرض نفسه كمدافع عن قضايا البيئة والمناخ، حيث نجح في تأمين تمويل لحدائق شهيرة في لندن مثل ريتشموند بارك وكيو غاردنز. ولا يمثل هذا النموذج من المرشحين استثناء عن البيئة اللندنية التي تشهد تفاوتاً طبقياً كبيراً وبها نسبة كبيرة من الأثرياء وأرباب الأعمال، فضلاً عن حي كبير للمال والأعمال يقع في شرق المدينة حيث تتخذ فيه بورصة لندن والبنوك والشركات الكبرى مقرات لها.
على الجانب الآخر يراهن صادق خان على مساره العصامي الذي صعد به من حي متواضع إلى منصب رفيع في الحكومة البريطانية، ومعرفته بالمناطق المهمشة في لندن واحتياجاتها. ويفتخر بعمل والده كسائق للحافلات، ووعد في برنامجه الانتخابي بتطوير نظام جديد لأجرة الحافلات يمكِّن الركاب من استخدام تذكرة الركوب ذاتها عدة مرات بشكل مجاني خلال ساعة، بدلاً من النظام الحالي الذي يشترط دفع تذكرة عند كل استخدام للحافلات. بالإضافة للتعهد بعدم رفع أسعار المواصلات العامة لمدة أربع سنوات، ومعالجة مشكلة انخفاض الرواتب لدى العديد من القطاعات وتوفير برامج تدريبية جديدة لزيادة فرص العمل.
مهاجمته لأنه مسلم!
وقد اشتدت ضراوة الهجوم السياسي والإعلامي على صادق خان باستخدام ورقة خلفيته الإسلامية واحتكاكه الدائم مع المؤسسات الإسلامية في البلاد خلال عمله السياسي. ووصل الأمر لمهاجمة رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون له في مجلس العموم مدعياً أنه قابل إماماً يدعى سليمان غني عدة مرات في دائرته الانتخابية وأن هذا الأمام مؤيد لتنظيم الدولة الإسلامية. ليتضح فيما بعد خطأ كاميرون وأن هذا الإمام نفسه التقى مرشح حزب المحافظين أيضاً وهناك صورٌ تجمعهما.
وتعدّ هذه الانتخابات استفتاءً غير مباشر على قوة حزب العمال تحت قيادة زعيمه الجديد جيرمي كوربن والاتجاه الذي يمثله داخل الحزب، حيث يعطي أولوية لقضايا العدالة الاجتماعية وإرساء قواعد لسياسة عادلة على الصعيدين الداخل والخارجي منها مناصرة القضية الفلسطينية ومناهضة الإسلاموفوبيا وكافة أشكال التمييز. وهي انتخابات ذات دلالة سياسية كبيرة في البلاد لما تمثله العاصمة من ثقل إداري هام، حيث تتركز فيها أهم المؤسسات وتشمل جغرافيا مناطق مترامية الأطراف تنضوي تحت ما يعرف بلندن الكبرى ويقطنها أكثر من ثمانية مليون شخص.
ومن المتوقع أن يمضي صادق خان في طريقه قدماً نحو إحراز فوز تاريخي في هذه الانتخابات ما لم تحدث مفاجآت تقلب الموازين في اللحظات الأخيرة. فمزاج الناخب البريطاني عادةً يميل إلى إعطاء فرصة لمرشح الحزب السياسي الكبير المنافس بعد دورتين متتالتين نجح فيها حزب المحافظين في الاحتفاظ بهذا المنصب.