أزمة الحراك الفئوي في المغرب

المعضلة لا تقتصر على وحدة المغاربة وضرب قيمة التضامن بينهم فحسب، بل تؤثر على جوهر المطالب الفئوية ذاتها، وتضعف تلك المجموعات والتشكيلات مهما بدا زخمها قوياً، فتظل عاجزة عن تركيع السلطة، وحتى إذا انتصرت يكون انتصارها جزئياً

عربي بوست
تم النشر: 2016/05/02 الساعة 05:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/05/02 الساعة 05:35 بتوقيت غرينتش

في خضم التدافع السياسي بين القوى المجتمعية الحية والنظام المغربي، وبعد عقود من التنكيل والترهيب الذي مارسه المخزن بحق المغاربة، فيما عُرف بسنوات الجمر والرصاص، خلص إلى أن ذلك المنسوب القمعي العالي لن يحمي نظامه، وسيعرضه لا محالة للانهيار، أو للسكتة القلبية بتعبير الحسن الثاني، ما جعله يقرر في التسعينات تغيير بعض تكتيكاته التقليدية لضمان استمراريته والتحكم بشكل أفضل في البلد، خاصة أن هذا التصور ينسجم مع الظرفية الدولية التي كانت تدفع في اتجاه تجديد عدد من أنظمة المنطقة بشيء من "الرتوشات" الخداعة.

لم تقتصر إجراءات المخزن المتبعة تفعيلاً لسياساته الجديدة فقط على إحداث مؤسسات صورية، والتصالح مع نخب معينة للعب أدوار فيها، فحتى الشارع لم يسلم من عبثه.

صحيح أن النظام المغربي كغيره من النظم الاستبدادية ليس سعيداً أو مرتاحاً بحركية الشارع، أياً كان حجمها أو طبيعة مطالبها، لكن باعتبار أن حق الاحتجاج أصبح واقعاً تم انتزاعه منه انتزاعاً بالتضحيات المتواصلة، وأن ثقافته بدأت تسري أكثر فأكثر بين المغاربة بمختلف شرائحهم، فقد أعاد النظام ترتيب أوراقه من جديد؛ لتكييف نفسه مع الحراك الجماهيري، والتعامل معه بحذر، محاولاً ضبط إيقاعاته وتوجيهه بطريقة غير مباشرة، أو التقليل من حدته في أسوأ الحالات.

من هنا فقد شهد المغرب في أواخر العهد القديم ظهور حركات احتجاجية عديدة، والتي استطاعت أن تتجذر في البيئة المغربية طيلة سنوات العصر الحالي، حتى إن صداها وصل للأحياء الشعبية، بل وإلى قرى ومداشر كثيرة في شتى ربوع البلاد.

غير أن الملاحظ أنها اقتصرت على المطالب الاجتماعية ذات الأبعاد الفئوية المحدودة، وتحديداً تلك التي تتعلق بالشق "الخبزي"، ذلك لأنها تفتقد للوعي السياسي الذي يجعلها تفهم أبعاد مشاكلها التي ترزح فيها ومنبعها، مما يؤدي بتلك الحركات إلى الركون للانغلاق والتقوقع على الذات، حتى أصبحت كالطوائف معزولة عن المجتمع.

هذا مع التأكيد على دور السلطة في ترسيخ الوضع الحالي وسعيها للحؤول دون تطور أي حراك وإثقاله بنقاط الضعف، وذلك بالعمل على تشتيت المغاربة تارة بنهج سياسة "فرِّق تسُد"، وتارة أخرى تكتفي بارتجاليتها وسوء تدبيرها لعدد من الملفات لتحقيق نفس الهدف، وحتى حين تسعى لمعالجة أزمة فئة ما إلا وتخلق بحلولها الترقيعية إشكالات أخرى وضحايا جدداً.

هكذا تنشأ الحساسيات وتنمو الأحقاد بين قطاعات واسعة من المغاربة، ولو تعلق الأمر بالنزر اليسير من الحقوق المهضومة أصلاً، والذي يناله البعض، ولا يوفق البعض الآخر في تحقيقه، حتى أصبحت العلاقة غير سليمة بين أبناء الوطن الواحد، فقلما يحدث الوفاق، وأحياناً نلمس استعداء مجانياً لكثير من الفئات المناضلة من طرف عامة المغاربة، أو بين تلك الفئات نفسها، مع أن المفترض أن يكون المناضلون على قلب رجل واحد حتى لو اختلفت مطالبهم.

المحصلة أنه، وإن سلم مجتمعنا من الطائفية التقليدية التي يشهدها محيطنا الإقليمي، غير أن هذا لا يمنع من كوننا أصبحنا أمام عدد كبير من الانقسامات والتصدعات داخل المجتمع، فقد نجح النظام إلى حد كبير في صنع طوائف من نوع آخر ذات خصوصية مهنية أو مناطقية أو غير ذلك، والتي باتت تتناسل كالفطر.

المعضلة لا تقتصر على وحدة المغاربة وضرب قيمة التضامن بينهم فحسب، بل تؤثر على جوهر المطالب الفئوية ذاتها، وتضعف تلك المجموعات والتشكيلات مهما بدا زخمها قوياً، فتظل عاجزة عن تركيع السلطة، وحتى إذا انتصرت يكون انتصارها جزئياً، فبمجرد ما تنعزل عن المجتمع يصبح الاستفراد والتلاعب بها يسيراً.

ولنا في عدد من التجارب الفئوية الماضية خير مثال؛ حيث تظهر كل المعاني السابقة بشكل جلي وواضح، بل إن آخر تجربة ملأت الدنيا وشغلت الناس تلك الخاصة بتنسيقية الأساتذة المتدربين، وإن كانت أفضل من سابقاتها؛ حيث عرفت نسبياً تضامناً مجتمعياً أكبر، ورغم قدراتها النضالية وتضحياتها الكبيرة، فإنها بدورها اصطدمت بصخرة الواقع ومحدودية العمل من داخل التنسيقيات في ظل سطوة النظام.

طبعاً هذا أمر لا يعيبهم، ولا يبخس من قدر نضالاتهم في شيء، ولا ينفي أنهم سجلوا انتصاراً مهماً على النظام كسروا به فيتو الحكومة على توظيف فوجهم، وحُق لهم أن يفخروا بإنجازهم الكبير ذاك بالنظر لطبيعة الأوضاع والظرفية الصعبة التي اشتغلوا فيها.

غير أن الملف لم يطوَ بعد، وما زال المرسومان قائمَين، وهذه ليست مسؤوليتهم على كل حال، هي مسؤولية النقابات والشغيلة التعليمية وباقي النخب الذين عوض أن يتحملوها لإسناد حراك الأساتذة المتدربين استقالوا منها، واختبأوا وراء دور الوساطة بين التنسيقية والحكومة، وكأن المشكلة ستنتهي بتلبية مطالب هذا الفوج.

الخلاصة أن أقصى ما يمكن أن تفعله التنسيقيات والتشكيلات الفئوية هو ضمان بعض الحقوق المحدودة والمرقعة الخاصة بالمجموعات المنضوية تحت لوائها، ولا تستطيع وقف تعنت المسؤولين وتعسفاتهم تجاه حقوق المواطنين ومكتسباتهم الكبرى.

لذا إن لم يدرك المغاربة وحدة المصير بينهم، ويفكروا بشكل جمعي في فعل نضالي وحدوي شامل، سنظل نتخبط في السلبية وفي فوضى التشرذم والانقسام التي لا تخدم إلا النظام المخزني في نهاية المطاف.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد