ما أن أنهيت الحوار المباشر يوم السبت الماضي الذي تناولت فيه مع الأحبة المتابعين مقالتي السابقة (هل يصنع الإنسان قدَرَه؟)، حتى باشرت في رسم منهجية – عملية – تُسهِّل فهم آلية صنع القرار وإختيار الأقدار، وعلى الرغم من التفاعل الإيجابي للقرَّاء عموماً مع محتوى الطرح والنقاش، إلاَّ أنه بقي مَن إستعصى عليه إستيعاب أنه قادر على إختيار قدره و صنع مستقبله بنفسه، وتذكرت ما قاله هال أوربان في كتابه (الدروس الكبرى للحياة):
إنَّ ما يدهشني دوماً، هو قوة الجدل عند الناس عندما يتم إخبارهم أنه بإمكانهم فعل كل شيء بمحض إختيارهم، فهم متمسكون جداً بفلسفة الفرض في الحياة، ومن الصعب عليهم التخلي عنها!
تبين لي بعدها أنَّ هذا أمر عالمي وليس حكراً على العرب والمسلمين، فالبشر – عموماً – يستريحون تحت غمامة القضاء والقدر التي تحجب عنهم شمس المسؤولية وعناء الإجتهاد، فالإختيار يحتاج إلى تفكير عميق وتخطيط سليم ومسؤولية كاملة، وهذا الأمر ليس سهلاً على النفس البشرية، فنسبة ليست هيِّنة من الناس تعتقد أنَّ الخيار لا يأتي إلاَّ والإنسان في أريحية من أمره وكل شيء متاح بين يديه من بيئة راقية ومجتمع مُتحضِّر ومال يسير، وهذا الفهم الخاطيء بداية كل خلل يتبعه فشل أبدي.
قبل البدء في تفصيل تلك المنهجية، وددت الإشارة إلى سؤال مهم وصلني من أحد المتابعين: (لو عملت بالأسباب واجتهدت ودرست، لكن لم يشأ الله أن أنجح، فكيف أكون مسؤولاً عن قدري؟ فهل أكون في هذه الحال مُسيراً لقدر قدَّرَه الله عليَّ وهو الرسوب؟).
من الجدير بالذكر أنه لا يمكن – بأي حال من الأحوال – أن يُخالف الله قوانينه التي خلقها وقدَّرها في الكون بعدله وحكمته، مثل قوانين الغنى والفقر، النجاح والفشل، النصر والهزيمة، إلخ، كل تلك الأمور ثابتة لا تتغير، فمَن يدرس ينجح، ومَن يعمل يأكل، ومَن يُعد العدة ينتصر، ومهما كان دين الإنسان ومعتقده، سيُفلح إن إتبع أسباب النجاح في الحياة، فيستحيل أن يدرس الإنسان ولا ينجح، وهذا من تمام عدل الله وحكمته أن جعل لتحصيل النجاح أسباباً ثابتة لا تتغير، من أخذ بها أفلح، ومن تركها فشل، وكلها إختيارات بين يدي البشر، وهم مسؤولون عن تلك الإختيارات.
من جهة أخرى، ماذا لو درست وفي الطريق إلى الإمتحان صدمتني مركبة ولم أتمكن من اللحاق بالإمتحان فرسبت؟ هذا يُسمَّى البلاء، وأنت لست مسؤولاً عن الإبتلاء إذا وقع من دون إهمال منك، ولكنك مسؤول عن ردة فعلك تجاه ذلك الإبتلاء وكيفية تعاملك معه، فإذا حدث ذلك الإبتلاء، قد يكون لمصلحتك، فالتعامل معه بإيجابية ومسؤولية سيفتح لك خيارات أخرى في الحياة لم تكن لتخطر ببالك لولاه، فمازال بمقدورك تقديم الإمتحان مرة أخرى وهذه ليست النهاية، وقد لا يكون البلاء عذاباً لك أو إنتقاماً منك، يقول الله تعالى {مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ}، ولو فرضنا أنه كان إنتقاماً من الخالق، فذلك لأنك إخترت في السابق خيارات سيئة، وقد جاء وقت تصحيحها، والإحتمال الثالث أن يكون ذلك الإبتلاء إمتحان لك كما جاء في الأثر، فيزيدك قرباً من الله لو إخترت ذلك، فلا ينبغي للإبتلاء أن يشُلَّ كيانك ويُبقيك في مكانك، بل يجب أن ينقلك من حال إلى حال، وأنت فقط من يمكنه حسم قرار الإنتقال وتغيير ذلك الحال، إما للأحسن أو للأسوأ.
السؤال المهم الآن هو … إن كنا نملك قدرنا ويمكننا الإختيار، إذاً كيف يمكننا إستغلال هذه النعمة العظيمة؟ من أين نبدأ؟
لنستعرض معاً المنهجية التالية التي وضعتها في هذا المقال لآلية صنع القرار، علَّها تكون نواة لأسلوب تفكير جديد قابل للتطوير في المستقبل.
حدد وجهتك في الحياة، إبدأ بسؤال نفسك ما هو هذا الأمر الذي تنوي إنجازه أو الوصول إليه؟ إسأل نفسم وفكِّر بعمق ولا تجعل لطموحك حدود.
٢) أدرس وضعك:
قوة الإختيار لتحقيق النقطة الأولى (حدد هدفك) تعتمد إعتماداً رئيسياً على المحاور التالية، فبعدما علمت ما هي وجهتك والأمر الذي تنوي تحقيقه، إبدأ بدراسة وضعك الحالي لتعلم إن كنت قادراً على إنجاز ذلك الهدف:
• الظروف:
– الزمانية: هل الوقت مناسب أم أنه من الأفضل الإنتظار للعام القادم؟
– المكانية: هل المكان مناسب أم لابد من تغييره لآخر أفضل؟
– الإجتماعية: هل زوجتي على إستعداد لذلك؟ هل مجتمعي يفهم ذلك؟ هل هناك أي عوائق ثقافية؟
• القدرات:
– النفسية: هل أملك الرغبة لإنجاز ذلك الأمر أم أني مازلت غير مستعد؟
– الجسدية: هل ظروفي الجسدية تسمح أم إنَّ إعاقتي تمنعني؟
– المالية: هل لدي من المال ما يكفي؟
– العلمية: هل لدي من العلم والمعرفة ما يكفي؟
• المبادئ:
– الخطوط الحمراء: ما هي الأمور التي لن أتجاوزها وستكون عائقاً أمامي؟
– الخطوط الخضراء: ما هي الأمور التي ستعينني على المضي قدماً؟
يكمن خطر الإعتقاد بفكرة الجبر والإكراه وإنعدام الإختيار في الإنغلاق التلقائي الذي يحدث للأفق وسبل التفكير في الحلول، لينتهي الإنسان راضياً بالفقر أو الظلم أو الجهل، والنقيض تماماً لو إعتقد الإنسان أنه دائماً يملك الخيار، الأمر الذي سيؤدي إلى فتح الباب الأول أمام إيجاد الحل، ومن ثم فتح الباب الذي يليه ثم الذي يليه إلى أن يصل إلى مجموعة من الخيارات القابلة للمفاضلة فيما بينها. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، إنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين)، فبعدما تنتهي من النقطة الثانية (أدرس وضعك)، ستعلم نوعية الخيارات التي أمامك، ووقتها إما ستختار أن ترضى بالوضع الحالي، أو أن تختار الأقل ضرراً، أو الأكثر نفعاً كما يلي:
• إرضى بالحال: هذا يعني أنك إخترت ألاَّ تختار، ولن تكون سيد حياتك ولن تمسك زمام أمرك، وقد يختار أحد آخر مصيرك، ومن المهم التفريق بين الرضى الذي دعى إليه الإسلام وهو التسليم بمشيئة الله بعد بلوغ كل الأسباب الممكنة، وبين الرضى الذي أساسه الجهل وعدم الفهم، ومثال على ذلك رجل وزوجته لا ينجبان، فرضيا بالأمر واهمان أنها مشيئة الله لهما، من دون أن يصلا طبياً طلباً للتشخيص والعلاج، فذلك لا يمكن وصفه بأنه الرضا الذي أمر به الشرع، وإن كان الإنسان مثلاً لم يصل الطبيب لأنه لا يملك مالاً، فعليه أن يخطط لكيفية تحصيل المال وتوفيره لإنجاز ذلك الأمر كما بيَّنا في النقطة الثانية (أدرس وضعك)، فالأمر خيار ولا إكراه فيه.
• الأقل ضرراً: مثال على ذلك إمرأة رفضت مَن جاء يطلبها للزواج، فهددها أهلها بالقتل، وأول فكرة ستخطر في رأس الفتاة أنه لم يعد لديها أي خيار، وفي حقيقة الأمر مازال لديها الكثير من الخيارات، فالخيار الأول أن تتزوج الرجل، والثاني أن ترفض فيقتلها أهلها، والثالث أن تقتل هي نفسها، والرابع أن تهرب، والخامس أن تستنجد بعقلاء العائلة، والسادس أن تستنجد بعقلاء الحي الذي تسكن فيه وهكذا، وكلما آمنت بفكرة الإختيار، كلما فكَّرت وخلقت حلول جديدة لتخرج بأفضل خيار يُناسبها في ذلك الموقف بحيث يكون الأخف ضرراً، فإن لم تؤمن بأنه مازال لديها خيار، ستركن مباشرة لفكرة الإكراه والإجبار من الله، وأنَّ هذا هو قدرها وقسمتها ونصيبها وأنه لا يوجد في الأفق أي حل، ليتوقف العقل تلقائياً عن إيجاد الحلول، لتبقى تتقلب من فشل إلى فشل، والله سبحانه وتعالى لم يخلق في هذا الكون مشكلة إلاَّ وخلق لها حلاً، وهذا من تمام رحمته وعدله وحكمته سبحانه جلَّ في عُلاه.
• الأكثر نفعاً: على خلاف النقطة السابقة، قد يجد الإنسان بعد الإنتهاء من النقطة الثانية (أدرس وضعك) أنه أمام مجموعة من الخيارات النافعة، فيعمل على إختيار أفضلها.
٤) أعد التقييم:
عندما تنتهي لما تنوي فعله، أعد التقييم من جديد، فقد يستجد الحال وتتغير الأحوال ومعها الأهداف، أو قد تجد خللاً في إختياراتك السابقة، وبناءً عليه تقوم بالتعديل اللازم.
أعتقد بأنَّ هذه المنهجية عملية ومنطقية وقابلة للتطوير، لكن الأمر سيحتاج إلى شفافية وتفاعل من الجميع كي نتمكن من تطويرها فعلاً بشكل يناسب جميع البشر.
لمناقشة أفكار المقال والإستماع إلى آرائكم وتلقي مشاركاتكم، ألقاكم – بإذن الله – يوم السبت القادم ٣٠ أبريل في حوار مرئي مباشر من خلال صفحتي على الفيسبوك في الأوقات التالية:
رابط الصفحة: https://www.facebook.com/HusseinYounesWriter
توقيت البث المباشر: ١٢:٠٠ ظهراً (تورونتو) | ٥:٠٠ مساء (الرباط) | ٧:٠٠ مساء (مكة)
_______________________________
* ملحق: البنية الكاملة لمنهجية صنع القرار:
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.