مع نزول عشرات الآلاف من العراقيين إلى شوارع بغداد، مطالبين بتغييرات وإصلاحات حكومية، مَثـُـل رئيس الوزراء الشيعي حيدر العبادي أمام البرلمان هذا الأسبوع، أملاً في تسريع عملية التغيير وتعيين وزراء جدد. وما إن دخل حتى قابله المشرّعون برشه بالماء والطرق والخبط على الطاولات هاتفين برحيله. فيما صاح أحدهم "هذه الجلسة غير قانونية"!
غادر العبادي القاعة تاركاً وراءه معارضيه، واجتمع في غرفة أخرى بمشرّعين يدعمونه، حيث اكتمل هناك النصاب الأدنى وقاموا بتعيين وزراء جدد تكنوقراطيين في خطوة لإنهاء السياسة الطائفية والفساد والمحسوبيات التي غزتها، وفق تقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، الجمعة 29 أبريل/نيسان 2016.
لكن الخطوة لم تكتمل، شأنها شأن أمور كثيرة في الحكومة العراقية، فالوزراء الجدد المعينون قلة، فيما بقيت وزارات كبرى مثل النفط والخارجية والاقتصاد شاغرة في حيرة من أمرها. وألغيت جلسة جديدة للبرلمان الخميس 28 أبريل/نيسان 2016.
مضى عامان تقريباً على احتلال تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) لشمال العراق، ما زج بإدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، من جديد في معمعة عراقية ظنوا أنهم انتهوا منها، لكن النظام السياسي العراقي مصاب بوهن شديد بالكاد يقف على قدميه مثلما أظهرته مشاهد جلسة البرلمان هذا الأسبوع.
دعوات التقسيم
ثم جاء جوزيف بايدن نائب الرئيس الأميركي، والذي كان عام 2006 كتب مقالاً عندما كان سيناتوراً يدعو فيه إلى تقسيم العراق إلى مناطق سنية وشيعية وكردية.
وهنا يتبادر إلى الأذهان سؤال لطالما حير القوى العظمى على مدى قرن من الزمان: متى يحظى العراق بدولة بنّاءة يسودها السلام؟
علي خضري، وهو مسؤول أميركي سابق في العراق عمل مساعداً لعدة سفراء وقادة حربيين، قال "أعتقد عموماً أن العراق لا يمكن أن يتم حكمه في ظل الحكومة الحالية". مضيفاً أن تقسيم البلاد أو تأسيس نظام كونفيدرالي قد يكون الحل الوحيد لجراح البلاد ومشاكلها، مطلقاً على هذا الحل اسم "حل غير كامل لعالم غير كامل".
خضري -بحسب تقرير الصحيفة الأميركية-ت حول الآن إلى موقف الناقد الشرس لسياسة أميركا في العراق بقوله إنها لطالما تجاهلت واقع البلاد الذي ينطوي على كثير من المشاكل السياسية الخفية. ويقول أيضاً "العراق زواج فاشل يسوده العنف، وما زلنا نضخ الدولارات الأميركية ونضحي بحياة الجنود الأميركيين أملاً في معجزة تنقذه. يجدر بنا الآن البحث في تفريق ودي أو طلاق يرضي الكل ويمنح جميع الجاليات العراقية حق تقرير المصير".
وكان خضري قد كتب العام الماضي عندما كان في الخارجية الأميركية، أن على واشنطن "التخلي عن تمسكها بالحدود الصناعية" -ويقصد هنا الحدود المرسومة في خرائط الشرق الأوسط التي وضعها الإنكليز والفرنسيون بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى- وأن عليها السماح للعراق بالانقسام.
سياسات فاشلة
يسيطر تنظيم داعش على أراض في العراق وسوريا ويتوسع نحو ليبيا وأفغانستان وغيرها، كما نفذ التنظيم هجمات في باريس وبروكسل، لذا قد ينسى كثيرون أن البيئة التي أخرجت لنا هذا التنظيم الإرهابي كانت البيئة السياسة العراقية الفاشلة، وتحديداً السياسة الطائفية التي مارسها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي شيعي المذهب.
لقد صرح المسؤولون الأميركيون، أن وحدة العراق ما زالت نهج سياستهم، لكن مسؤولي الأمم المتحدة في بغداد بدأوا بهدوء يدرسون حيثيات وتداعيات تقسيم العراق على المجتمع الدولي.
مشاكل العراق السياسية فاقمها انهيار أسعار النفط، فالنفط هو الشريان الذي يمد البلاد بالحياة، كما أن الحرب على تنظيم داعش طحنت العراق، فضلاً عن أن القتال الذي بدأ مؤخراً يشب بين الميليشيات الشيعية والكردية شمال البلاد قد أقض مضجع المحللين والمراقبين الذين يخشون أن تدور الدوائر من جديد لتزج بالعراق في دوامة حرب أهلية دموية.
يبدو أن قدر العراق أن يظل عالقاً في الماضي يعيش التاريخ نفسه مراراً وتكراراً إلى الأبد.
لقد عمل بايدن على تعزيز وحدة العراق رغم مقترحه قبل 10 أعوام بتقسيم العراق إلى 3 أقسام، لكنه في تصريحات الخميس 28 أبريل/ نيسان 2016 أمام طواقم دبلوماسية وعسكرية أميركية في بغداد أتى من جديد على ذكر مقترحه القديم، فقال "فكروا بكل المناطق التي نحاول جاهدين الحفاظ على السلام فيها، فكروا بكل المناطق التي أرسلناكم إليها يا شبابنا وشاباتنا. إنها مناطق رسمنا فيها حدوداً صناعية بسبب التاريخ، فصنعنا دولاً صناعية قوامها مجموعات ثقافية ودينية وإثنية مختلفة تماماً عن بعضها البعض، ثم قلنا لهم: هيا، عيشوا سوياً".
نظرة تاريخية
قبل 100 عام تذمرت المسؤولة والجاسوسة البريطانية، غيرترود بيل التي ينسب إليها ترسيم حدود العراق الحديث بعد الحرب العالمية الأولى، من هذا المشروع. كتبت بيل لدى ترسيم حدود الدولة الجديدة "لقد سارعنا للدخول في هذا الأمر كالعادة من دون الاستناد إلى خطة سياسية شاملة".
وقريباً سيصدر فيلم وثائقي بعنوان Letters From Baghdad (رسائل من بغداد) يستعرض حياة بيل ويستكشف إرثها، مظهراً كيف أن القليل فقط قد تغير في العراق على مدى قرن من الزمان.
إرث بيل ما زال يُستشعَر حتى يومنا هذا، ففي هذا الأسبوع اقترح العبادي تعيين "شريف علي بن حسين"، من سلالة الملك فيصل، وزيراً للخارجية؛ والمفارقة أن بيل عام 1921 كانت قد اختارت الملك فيصل لحكم العراق نفسها. لكن المشرعين رفضوا مقترح العبادي قائلين إنه من بقية ملكية غابرة خلت.
لعل معظم جراح العراق في يومنا هذا هي من مخلفات وحشية صدام حسين، فالشيعة والأكراد الذين عاشوا القمع أثناء حكم صدام السني لم ينسوا جراحهم التي لم تندمل. كما أن العرب السنة يقولون أن جاليتهم بأسرها همشت ظلماً لتدفع ثمن جرائم صدام.
بعد زيارة قامت بها إلى العراق قالت مسؤولة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة كيت غيلمور هذا الأسبوع "يبدو أن للعراق ذاكرة حديدية طويلة الأمد، بينما لديه قصر نظر في الرؤية. إنه أشبه بعربة تسير على طريق صخري وعر، فيها مرآة خلفية ضخمة بينما زجاج الرؤية الأمامي صغير كخرم إبرة، ومع هذا كله هناك منافسة حامية الوطيس بين الراكبين على كرسي المقود. جميع القادة العراقيين على لسانهم حجة "مظالم طائفتي" بينما يتعامون عن معاناة الشعب العراقي ككل، فيفشلون في رسم خطة سير لمستقبل مشترك".
مظالم طائفية
وقد اعترف المالكي في مقابلة له مع نيويورك تايمز هذا العام أنه لم يتمكن أثناء فترة ولايته من التغلب على هذا الماضي.
"الأكراد يريدون تعويضاً عن الماضي"، هكذا قال المالكي الذي يبدو أنه عازم هذه الأيام على إضعاف موقف العبادي، وأضاف "الشيعة كذلك. والسنة يخشون الأغلبية ويخشون مطالبتهم بدفع ثمن جريرة صدام".
وفي قلب الأزمة السياسية الحالية كذلك انقسامات وسط القيادة الشيعية نفسها، فالمالكي وغيره يحاربون جهود العبادي في إعادة الإعمار والإصلاح.
كان جد المالكي قد شارك في ثورة مسلحة ضد الاستعمار الإنكليزي للبلاد في عشرينيات القرن الماضي، والآن أصبح المالكي أحد نواب رئيس البلاد الثلاثة، بعدما خسر منصبه رئيساً للوزراء عام 2014.
والصيف الماضي عندما واجه العبادي موجات الاحتجاجات الشعبية، اقترح قبل كل شيء التخلص من مناصب نائب الرئيس الثلاثة هذه، لكن اثنين من شاغلي هذه المناصب رفضا التخلي عن كرسي منصبهما حتى بعدما قطعت عنهما الرواتب.
وأحد هذين النائبين هو المالكي الذي ما زال يسكن قصره ويصر على أنه نائب رئيس العراق.
من البديل؟
مع ذلك يزعم المالكي أن لا نية لديه بالعودة إلى كرسي المسؤولية رغم أن كثيراً من المسؤولين العراقيين والدبلوماسيين الغربيين يرون أنه يخطط لذلك، فيرد المالكي قائلاً "لا أفتقد المنصب ولا أريد العودة إليه".
أما البديل الذي يرى كثيرون أنه يطمح إلى شغل كرسي العبادي، فليس إلا هادي العامري الذي هو منافس شيعي للعبادي ويترأس ميليشيا شيعية قوية مدعومة من إيران.
غير أن العامري بدوره يزعم قائلاً "لن أقبل [بمنصب رئاسة الوزراء] إلا إن كنتُ مجنونًا".
ويتابع قائلاً "لا ديموقراطية في العراق، فالكل هنا يريد مقود السيارة، الرابح والخاسر كلاهما".
غير أنه دافع عن العبادي وفشله في توحيد الدولة العراقية وإجماع كلمتها "حتى لو جاء العراق نبي ليحكمها لما نجح في إرضاء كافة الأطراف".
– هذا الموضوع مترجم بتصرف عن صحيفة New York Times الأميركية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.